زريعة إبليس

حواء بريئة، فقد وسوس إليها الشيطان هي الأخرى، لكنها تظل المتهمة بإخراج آدم من الجنة، ومن الصعب أن يصدق المسلمون غير ذلك.
الأربعاء 2024/10/02
المرأة لا يجب أن تكون عدو المرأة الأول

"زريعة إبليس" مثل أطلقته إحدى النساء الطاعنات في السن على مسامعنا وهي تشكو لابنتها من كنتها وبناتها، إنها “صنيعة الشيطان” في نظرها لمجرد أنها رفضت أن تخدمها وتطيعها طاعة عمياء، ربما هي تقوم بالفعل ذاته الذي تمارسه ابنتها مع أهل زوجها، لكنها من المؤكد أنها ترى ابنتها “بنت ناس”.

هذا الوسم يستخدم بكثرة في تونس وربما في دول عربية أخرى، إن عجز المرء عن وصف امرأة قوية قال إنها “زريعة إبليس” وأتبعها بكلمة “يا لطيف”، كأنه يستجير بالله اللطيف منها. والغريب أن هذه الصفة تطلقها نساء ضد نساء مثلهن.

لا أجد تفسيرا واحدا لقول هذه العبارة وتصديقها، سوى أن الوعي الجمعي العربي ربط بين الأنثى وإبليس، وجعلها رمزا للخطيئة والذنب والفتنة، وأقنع النساء جيلا وراء جيل بأنهن كذلك، حتى أنهن طبعن مع فكرة أن المرأة خلقت للفتنة ولمتعة الرجل، وكأن الحياة الدنيا وجدت وسخرت من أجله، أما هي فمن المتاع مثلها مثل الدابة.

بدأت القصة مع المخيال الشعبي ومع الأديان، والتي فسرها معظم الناس بأن “أمنا حواء” أغوت أبانا آدم ليأكل من الشجرة، فكانت سبب خروجه من الجنة، ورغم أنهم يعظمون حواء وينزلونها منزلة الأم المقدسة إلا أنهم نسبوا إليها فعلا شنيعا، وهم إلى اليوم يرفضون كل من يهدم هذه الأسطورة الثابتة.

“فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَىٰ شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلَىٰ”، هذا ما أبلغنا به الله في الآية 117 من سورة طه، وهو خير دليل على أن الشيطان هو من وسوس لآدم، وأن سعي آدم/ الإنسان وراء الخلد هو الذنب الأكبر الذي يجعله يشارك الله في خلوده، لذلك استوجب الذنب الكبير عقابا قاسيا، فنزوله للأرض سيجعله يدور في حلقة مفرغة، يسعى للخلد بكل السبل لكنه لا يناله أبدا.

حواء بريئة، فقد وسوس إليها الشيطان هي الأخرى، لكنها تظل المتهمة بإخراج آدم من الجنة، ومن الصعب أن يصدق المسلمون غير ذلك، فحتى عندما خرج عليهم مفتي مصر السابق علي جمعة، ضمن برنامج تلفزيوني في رمضان الماضي، ليوضح آيات القرآن وينفي “التهمة” عن حواء، كذبوه وكذبوا قول الله وتشبثوا بما وجدوا عليه آباءهم.

الأمر ليس من الهين تغييره، إنها عقود بل قرون من تكرار الفكرة ذاتها، فكل الأدبيات الشهيرة، ومنها “ألف ليلة وليلة” وحتى الأساطير الشعبية، أخذت الكثير من حواء وذكرت بها، وكانت في بعض الحكايات نسخة عنها، ونسج الخيال العربي قصصا عن تحالف المرأة مع إبليس ضد الرجل “المسكين”.

ربط الكيد والمكر بالمرأة، وكذلك ربط الحب والجنس والفتنة والدمار، فهي إن دخلت حياة الرجل سلبته كل ما يملك، يكفي فقط أن تغريه بأي طريقة تختارها. لقد صورت في بعض القصص بصورة “الجني” الذي لا يقوى عليه أحد ولا يضاهيه في الدهاء مخلوق، وإبليس كان من الجن.

قوة المرأة -التي من المفارقة أنهم أقنعوا أنفسهم أيضا بأنها ناقصة عقلا ودينا- راسخة في الوجدان العربي، ترتبط بقوة الجان والشياطين، ولن يتغير ذلك لدى أغلب المسلمين، رغم أنهم يرددون آيات القرآن يوميا ويتنافسون في ختمه، ويقرأون بين سطوره مساواة الله بين الإناث والذكور، فالضوابط السلوكية تنطبق على الطرفين والعقاب لهما واحد.

حين أفكر في عبارة “زريعة إبليس”، تهدم كل صور القوة التي يدعيها الرجال، تكسر كل أوجه الفوقية التي يمارسونها على النساء، زريعة إبليس الحقيقية هي أن نثبت على الأسطورة، نصدقها ونعيشها، ألّا نهز عرش الأفكار ونهدمه ونبني لأنفسنا قواعد وحكايات ولِمَ لا أساطير جديدة تنتصر للحياة وفي أولها تعلمنا أن المرأة لا يجب أن تكون عدو المرأة الأول.

18