"زد" حكاية مستقبلية عن جحيم الحياة الإنسانية في ظل نظام الخنفساء

لقد كتب العديد من الروائيين المعاصرين عن التأثيرات المدمرة للتكنولوجيا، من بينهم ديف إيجرز، ودون ديليلو، وإيان ماك إيوان، ونيكولا باركر. وتأتي رواية “زد” للكاتبة البريطانية جوانا كفنا كي تواصل كشف الواقع المرير لتأثير التكنولوجيا، بطريقة مشوقة.
تصور رواية "زِد" للروائية البريطانية جوانا كڤنا، التي تنتمي إلى الأدب الدستوپي، مجتمعا معولما تسيطر عليه شركات التكنولوجيا العملاقة وتطبيقات الذكاء الاصطناعي، مجتمعا تراقب فيه شركة تسمى “الخنفساء” كل شاردة وواردة في حياة الناس، حيث تبث كاميراتها في الشوارع، بل في غرف النوم أيضا.
تلزِم الخنفساء كل مواطن بأن يكون له مساعد شخصي (من الذكاء الاصطناعي) يحمل داخل سواره الخنفسائي، وأن تزرع داخل جسده شريحة تفاعلية مرتبطة بأنظمة الخنفساء، وأن يستخدم سياراتها ذاتية القيادة، وأن يسجل بياناته كافة لدى شركة الخنفساء، وإلا سيصبح من عِداد المجهولين المحرومين من فرص العمل والاستفادة من الخدمات الاجتماعية كافة، وأن يستخدم الفلوس الخنفسائية لشراء حاجياته اليومية.
نظام الخنفساء
الرواية تأتي ساخرة لاذعة عن الحياة في ظل شركة إعلامية وتكنولوجية عالمية تعرف بالضبط ما نفكر فيه وما نريده وما نفعله
تدور أحداث الرواية التي ترجمها الأكاديمي والمترجم السوري موسى الحالول، وراجعها الأكاديمي محمد زياد كبة، وصدرت عن مشروع كلمة بأبوظبي، في المستقبل القريب حين يعود محام مخمور إلى بيته بعد منتصف الليل، ثم يستل سكينا من المطبخ ويقتل بها زوجته وولديه الصغيرين. هذه الجريمة المروعة تسلط الضوء على فشل خوارزمية الـمِنْبأة التي يفترض أنها تتنبأ بالمسار السلوكي لكل شخص بناء على معطيات حياته المخزنة لدى أنظمة الخنفساء.
حين يخطئ روبوت مكافحة الإرهاب بقتل رجل بريء -بدلا من القاتل الحقيقي- يتجلى لنا غباء الذكاء الاصطناعي. وهنا تبدأ الخنفساء بتسويغ فشل أنظمتها بنسبة هذه الأخطاء الكارثية إلى عامل غامض تسميه “زِد”، وتشتري ذمم القضاة لتبرئة المذنب وإدانة البريء، بل تتواطأ معها الحكومة لسن قوانين جديدة لتبرئة الشركة من أي تهمة في الحاضر أو المستقبل.
الرواية تأتي ساخرة لاذعة عن الحياة في ظل شركة إعلامية وتكنولوجية عالمية تعرف بالضبط ما نفكر فيه وما نريده وما نفعله، قبل أن نفعله. إنها تطرح بطريقة مبهرة وكوميدية قاتمة أسئلة عميقة حول هويتنا، وما الذي ندين به لبعضنا البعض، وما الذي يجعلنا بشرا؟ حيث قامت شركة الخنفساء بإنشاء عالم مثالي يعتمد على خوارزمية مثالية، الآن ماذا تفعل مع كل هؤلاء الناس الفوضويين؟ لقد مات ليونيل بيجمان. قتل على يد الروبوت. ويصر جاي ماتياس، المؤسس والمدير التنفيذي لشركة بيتل العملاقة، على أن الأمر كان خطأ بشريا. ولكن هل كان كذلك؟ إما أن الخوارزميات التنبئية لـ”سلسلة الحياة” التي يفترض أن تكون على علم بكل شيء في بيتل لا تعمل، أو أنه تم اختراقها. من المستحيل تخيل كلا السيناريوهين، اللذين يشيران إلى نهاية المدينة التقنية في بيتل والحياة كما نعرفها.
الرواية كوميديا قاتمة تثير أسئلة عميقة حول هويتنا، وما الذي ندين به لبعضنا البعض، وما الذي يجعلنا بشرا
الخنفساء جزء لا يتجزأ من سير المجتمع الغربي، تستخدم الخوارزميات التنبئية ليس فقط لمساعدة الأشخاص على التسوق بحثا عن الأشياء الصحيحة، ولكن أيضا لإلقاء القبض عليهم لارتكابهم جرائم مستقبلية. يتتبع برنامجها الجميع من خلال الأساور الذكية الإلزامية التي بدونها “لا يتم التحقق من الأشخاص”، فضلا عن العديد من الأجهزة الذكية، وأساطيل سيارات الأجرة ذاتية القيادة، والكاميرات المنتشرة في كل مكان. وبطبيعة الحال، تلتزم الخنفساء بالحفاظ على مجتمع ديمقراطي عادل وحر مع الكثير من الخيارات للجميع.
في الواقع، عند لقائه مع نظير الخنفساء الصيني باوغوان، انزعج جاي ماتياس من مدى تقدم تقنية باوغوان التنبئية للذكاء الاصطناعي، خاصة وأن “الصينيين كانوا يعتزمون، من خلال هذا النوع من البروتوكولات، السيطرة على سكانهم، بدلا من مجرد إلهامهم واتخاذ خيارات أكثر إرضاء لأنفسهم وللمجتمع الأوسع”.
تبدأ الرواية مع دوغلاس فارلي، المحقق المتشدد في المكتب الوطني لمكافحة الإرهاب والأمن المدعوم من شركة الخنفساء. يوقظه سوار الخنفساء الموجود على معصمه، ويبلغه “المساعد الشخصي الذكي جدا” بموقف عاجل يحتاج إلى اهتمامه، وأن سيارة بيتل ذاتية القيادة في طريقها إليه.
الإجابات النهائية عن الأسئلة التي تطرحها رواية “زد” حول هيمنة التكنولوجيا الذكية على المجتمع الحديث خطيرة ومفزعة
لقد تم إيقاظ فارلي مبكرا لأن زميله الموظف جورج مان، وهو أب في منتصف العمر ليس لديه تاريخ من العنف، قام بخنق وطعن زوجته وولديه، ثم اختفى متجولا على طول نهر التايمز وينام على أحد المقاعد. ليست الجريمة هي محور القصة، بل تأثيرها على الرئيس التنفيذي لشركة الخنفساء، الذي تعتمد هالته على دقة خوارزمياته التنبئية، والتي من المفترض أن تغذيها مراقبة كل شيء على مدار الساعة طوال أيام الأسبوع بدءا من سجل المتصفح حتى معدل ضربات القلب، لمنع حدوث مثل هذه الفظائع.
جاي ماتياس رئيس الخنفساء شخص مهووس بالغرور والخلود؛ مهووس بالثروة والنساء وخاصة بزوجته. الشخصية الرئيسية الأخرى هي ضابط الشرطة إلويز جاين، المكلف بالبحث عن سبب القتل بدلا من العثور على القاتل. وتزداد الأمور سوءا عندما يقتل ضباط تنفيذ القانون الآليون بطريق الخطأ المحارب القديم في الجيش البريطاني ليونيل بيجمان، عرفوه خطأ على أنه جورج مان، حيث تصادف أنه كان يجلس على طاولة كان قد أخلاها جورج مان أخيرا، وهو حادث اعتبر “انتحارا بواسطة روبوت” في مقال صحفي كتبه الذكاء الاصطناعي.
تحاول فرانشيسكا أميرينسكيرا، خبيرة تكنولوجيا المعلومات في الشركة، تشديد القبضة الحديدية التي تسيطر بها الشركة على المشاركين الطوعيين تماما في ثورتها الاجتماعية الحميدة (والتي -بما أن بيتل تسيطر على جميع العملات وبالتالي جميع وسائل الحراك الاجتماعي- هي الجميع)، وتسعى جاهدة لوقف الفوضى المنتشرة التي خلقها “زد” (مصطلح فئة عدم الاستقرار). في هذه الأثناء يسعى المحقق إلويز جاين، وديفيد ستراشي، رئيس تحرير الصحف المملوكة لشركة “الخنفساء”، وديلي ستار، وصن، وديلي ريكورد، إلى الحصول على حقيقة “زد” وآثارها على مجتمع معتاد على هدوء الدولة الأم شبه الكاملة.
تزدهر الحبكات الفرعية في كل مكان من الرواية -بمن في ذلك زوجة جاي التي تمارس الجنس بشكل انتقامي مع بائع كتب مولع بكتابة الرسائل- لكن الخيط الرئيسي معلق على حركة التمرد، حركة من لم يتم التحقق منهم بعد، والتي أدى عملها السري الراديكالي إلى أزمة ضمير لدى ديفيد ستراشي محرر الصحيفة التي تم شراؤها من جانب الخنفساء، (الذي أفاد بمقتل بيجمان على أنه “انتحار بواسطة روبوت”)، في حين أكدت شكوك إلويز جاين أن مكافحة الإرهاب في قوانين القرن الحادي والعشرين التي أمرت الخنفساء بتطبيقها فاشلة.
متاهة من النسخ
تعمل الرواية على مستوى بناء الجملة، حيث تتعرض اللغة والقواعد والمعنى للخطر من قبل الآلات ووحدات التحكم البشرية الخاصة بها. إنها تخلق تقريبا شعرية من الحشو. كما نقرأ على لسان إحدى الشخصيات “إن المعرفة بهذه الأحداث قد تعرض سلامة الجمهور للخطر، لأن الجمهور قد يشعر بالقلق من أن سلامته في خطر، وبالتالي قد يتعايش بطريقة خطيرة وغير آمنة. وكان عدم معرفة الخطر هو السبيل الوحيد ليكون الجمهور آمنا. تطلق الخنفساء برنامجا لمساحاتها الافتراضية يترجم ما قلته إلى ما تعتقد أنه كان ينبغي عليك قوله، لذلك نحصل على شخصيات تجادل الإله، لكن هذا سيّء”.
إنها رواية دقيقة النص وتحقيق قوي في محو اللغة وفاعلية المراجع الأدبية العديدة، مما يسلط الضوء على حقيقة أن شخصيات الرواية تقتبس الأدب ولكنها لا تقرأه. وهناك كم كبير من الاختصارات واللغة الجديدة الخاصة بشركة الخنفساء يضاف إلى اللغة الحقيقية. وهناك الكثير من المناقشات رفيعة المستوى في الشركة تجري في الواقع الافتراضي، أو “الواقع الافتراضي الحقيقي” (حيث يتحدث دوغلاس فارلي الحقيقي جنبا إلى جنب مع دوغلاس فارلي الافتراضي).
في أحد الأقسام نرى شرودا وتكرارا بينما يفكر ماتياس في عمل الهاكر الإلكتروني جوجول. “كانت الصورة الأصلية عبارة عن صورة أثيرية للمسيح، مرتديا رداء أزرق، على خلفية سوداء غامضة، تمثل أسرار الخلق التي لا يمكن فهمها”.
كما تلتف اللغة في حلقات داخل حلقات، تكرارا لتكرارات، وسلسلة شبه تعويذة من نسخ النسخ. هناك نوعية مذهلة للنثر، حيث يتم توجيه القارئ عبر متاهة من النسخ، بحثا عن الفريد.
وعلى الرغم من كل الرؤى التي لدينا حول السلوك البشري من خلال علم النفس والعلوم والخوارزميات، فإننا لسنا آلات. إن رغبة جورج مان في قتل زوجته وأبنائه بدلا من السماح لهم بالاستمرار في العيش في ما اعتبره عالما محكوما عليه بالفشل لا معنى لها أكثر من قمع ماتياس للصحافة الحرة بينما يقنع نفسه بأنه يؤمن بالمثل الديمقراطية والمساواة. لم يعد بإمكاننا أن نفسر بسهولة الأعماق التي نشعر بها بفقدان أحد أحبائنا أو المدى الذي سنذهب إليه للنضال من أجل الحرية.
الإجابات النهائية للأسئلة التي تطرحها “زد” حول هيمنة التكنولوجيا الذكية على المجتمع الحديث خطيرة. إنها تكشف أن الحياة الإنسانية أصبحت جحيما لا يطاق في ظل دكتاتورية التكنولوجيا، ففي ظلها أصبح الواقع فوضويا وغير مؤكد إنسانيا.
يذكر أن المؤلفة جوانا كڤِنا كاتبة روائية وصحافية بريطانية. درست في جامعة أكسفورد، ثم درّست الكتابة في جامعتي أكسفورد وكامبريدج، كما كانت الكاتبة المقيمة في جامعة أكسفورد لبعض الوقت، وهو منصب يقدم فيه صاحبه الاستشارات في قضايا الكتابة الإبداعية. نشرت أول كتاب لها “متحف الجليد”، أما رواياتها فهي على التوالي: “شائِن”، “ولادة الحب”، “هلموا إلى الحافة”، “دليل ميداني إلى الواقع”، وأخيرا “زِد“.