قد لا يعشقه البعض مثلي.. لكنني أجده صنوا لكلمة حرية.. وصنوا لفكرة الأجنحة والطيران والانعتاق.. وأجده دواءً ناجعاً لمن أعياهُ المكوثُ والضجرُ واجترارُ التشابه والسكون.

دارت الأفكار في رأس "ليبا" وهو يبحث عن الأستاذ "فوزي" مدرس الموسيقى الذي تتلمذ على يديه وجعله يعشق آلة البيانو ويصبح موسيقيا.

ثمة من يحاول أن يحول دون طيرانها في هذا الأفق المترامي.. تحاول أن تتشبث ببقايا الأمل وأن تحذو حذو باريس التي رفضت الانصياع للخوف والحزن والتوجس.

مهما بدت جثة الوقت ثقيلة أحيانا ولبست الدقائق سوادها وعتمتها.. فثمة دائما ما قد يبعث فيها النبض ويبث هواءه النقي في رئاتها فتتفتح مثل وردة برية.

فنحن نعيش مهما تشبثنا بموتنا.. وقد نموت ونحن في أقصى نوبات تمسكنا بالحياة.. ولذا فلا جدوى ترتجى بغير المواجهة والقبول والتقبل.

حين نحب جدا وننتمي لآخر بأرواحنا وأجسادنا.. ونحس بعدئذ بالألم.. أو نقع في سوء الفهم أو تشوش الرؤى.. نحس أننا نريد أن نصرخ ونبكي ونلوم.. فنقسو دون أن نعي.

بلى لقد كنت الفارس المناسب في المكان والزمان المناسبين.. وقبيل شروق شمس يوم جديد ذبتَ كما ذابت حكاية من حكايا شهرزاد.

فالبلد الأم.. الآن.. بكل معطياته التي جعلته يتركه غير آسف.. بدا له أشبه بالفردوس المفقود.. رغم أنه لم يكن قد مرّ على وجوده في ألمانيا أكثر من خمسة أشهر.

ثمة لهفة تـدّعي عدم الاكتراث لكنها تتعرى عند أول همسة “ألو” ترتكبها مكالمة رسمية منشـّاة أو غير مقصودة وقد كبـّلتـْها ربطة عنقٍ حريرية ابتدعتـْها يدُ المكابرة.

كانت ثورة الياسمين هي الثورة الأقل دموية والأكثر تحضرا من بين كل ما تلاها من “ربيع عربي” ابتدأ وانتهى عندها فقط.. ثورة لافتاتها قصائد لأبي القاسم الشابي!

صار بوسع أي شخص أن يقول ما يشاء ويفبرك ما يشاء ويروج لما يشاء.. ليكتمل المشهد مشفوعا بإعجاب أو سخط الجماهير المحتشدة أمام شاشاتها الزرقاء أو هواتفها المحمولة.

لا أحد يفهم ما يدور.. حروبُ الإعلام أكبرُ من استيعابي والقارب أصغر من أحلامي.. لكنني أستطيع أن أصدق الأحلام وأصل..

تحاول أن تدثر أفكارك بشيء من الطمأنينة وأنت تغدق عليها أسئلتك.. لعلها تجيب بما يثلج الصدر الذي اشتعل رغبة أو بما يبعث الدفءَ في برد أعضائك المرتجفة.

أقف صاغرة على قدميّ.. أسمّرهما في الأرض علني أمد فيها جذورا تقوي عزيمتي ولو سقيتها دمعا سخينا.. أعدل من استقامة جذعي وأنا أتشبه بنخلة كنتُها ذات شاطئ.

الله كم أحب أن أحبـّك!.. فلماذا ومما أخاف؟.. مالي أقتطفُ جمرة وأضعها كالموتِ تحت لساني؟.. هل بحتُ بحبك أمام مرآة روحي المترددة؟.. هل قلت إني مليون أحبك هنا؟.

تذكرت الوالي العثماني الذي ضاق ذرعا بحر آب اللهاب ببغداد.. وإذ قالوا له إنه حرّ ينضج التمر قال لهم: اقطعوا أعناق النخيل!

هي لحظة فقط.. لحظة حاسمة من تاريخ الإحساس بالأشياء وبالمعنى الحقيقي لكلمة وجود.. والإدراك العميق لما تعنيه رحلة الجسد في حياة قصيرة جداً وجديرة جداً بأن تعاش.

تحضرني عبارة قرأتها في مكان ما تنطبق على المزيفين.. تقول “لا أكذب من اثنين: شاب تغرّب في أول عمره، وشيخ مات مجايلوه”.