شكرا

الأربعاء 2015/09/16

أشجار نارنج موغلة في الذاكرة.. أتفيـّأ ظلها وأشم رائحة ورقها وهي تصطفّ على جانبي طريق ترابيّ قصير جدا.. لكنه يطول إذ يعبر الباب الأمامي لحديقة مترامية الخضرة والماء والقلوب الحنونة.. أتطلع حولي ولا أرى منها إلا وجهين باسمين.. وكثير من وجوه اندثرت وحل محلها صمت وترقب وأشياء أخرى لا تشبه طفولتي ولا أول حبي ولا آخره.. ووجوه أخرى لم تعد تشبه نفسها إلا بالاسم وقد اضمحل فيها الفعل المضارع وبقي الماضي على حاله برغم شوائب الذكرى..

أحس أحيانا أني لست إزاءها أكثر من نسخة سيئة من نفسي.. نسخة احتلتها الحروب وأوغل في أفكارها الدم وملأتها أشلاء الجثث وصور النازحين.. وأتساءل كيف كنت ذات يوم أتراقص وأحب على أنغام الرصاص وصوت دوي القنابل وأنا أصرّ على حياتي؟.. هل كان للحياة معنى في ظل أول الحروب ولم تعد كذلك الآن؟..

اليوم وهنا.. صارت المعضلات تتخذ حجما أكبر من حجمها ألف مرة.. حتى بتّ أضبط نفسي مرات وأنا أغمض عينيّ وأصم أذني وأصرخ وأنا أغلق ملف القلب وأكتب عليه عبارة: “حالة ميؤوس منها”!..

أتلمّس ظلمة اليوم باحثة عن حماسة الأمس فلا أجد أمامي سوى طين ووحول تغرق فيها خطاي.. طين لا يشبه تربة أرضي التي غابت ولن تعود في أقصى أقاصي الحلم.. أجر النسخة السيئة مني واضعها في الفراش وأنا أحاول النوم لأتشبث بحلم من عبق النارنج.. أبحث في أعضائي عما تبقى من تعايش سلمي قد ينقذ ما تبقى من ريش وأجنحة أرممها برسم الطيران.. أصحو بعد ليلة من كوابيس تصارع أملا مترددا لتتنازعني مشاعر متناقضة مضطربة تؤثث يومي بتقلبات أنوائها وعواصفها وساعات صفوها.. أحاول أن أتوازن بخطواتي وأنا أسير على درب الدقائق.. فأقطع الساعات مترقبة أو غائبة أو منفعلة..

أقف صاغرة على قدميّ.. أسمّرهما بالأرض علني أمد فيها جذورا تقوّي عزيمتي ولو سقيتها دمعا سخينا.. أعدّل من استقامة جذعي وأنا أتشبه بنخلة كنتُها ذات شاطئ.. أحاول بإصرار وأنا أتذكر مصائب العالم أن أهوّن على جسدي وطأة مصائبه.. وأردد مثل تلميذة تحاول أن تعوّض ما فاتها: شكرا لكل لحظة كانت وكل لحظة أحضر مراسيم لقائها.. شكرا لكل شيء جميل لم يحدث بعد.. وكل قبيح يحدث رغم أنفي.. شكرا لكل حروبي فقد صرت بها أقوى.. شكرا لموتي فقد كبرت به عشرين حولا وصرت أكثر حكمة.. شكرا لأوجاعي التي جعلتني أفهم قيمة رقصي.. شكرا لبسمتك التي منحتني السكينة بعض الوقت وشكرا لغدرك الذي جعلني أعرف نفسي أكثر..

يتلبد الغيم أسود في سمائي فيحجب عن رئتيّ أنفاسي.. لكنني أبقى أنتظر المطر وأنا أحتمي بعبارة جدتي بأن المطر خير.. أترقب الريح وهي تعصف عاتية فأحتمي منها بذراعيّ أو أختبئ تحت جناحيّ بانتظار مرورها.. وما أن أشهد الخراب وأبكي على أطلال أرضي حتى أتمتم: شكرا للريح التي اقتلعت شجر روحي فمنحتني أرضا خاوية وأملا بزرع من فرح وحب جديد

المأساة أكبر من حجم قلبي لأستوعب فداحتها.. لكنني أجدها في أحيان كثيرة أصغر من ابتسامتي بكثير!.. هكذا أعلل النسخة الأصيلة من نفسي.. وبالأحلام أملؤها.. وأبقى مصرة على أن أرنو إلى انبلاج فجر جديد..

21