كشــف

الأربعاء 2015/08/26

لم أتوقع يوماً أن أحس بما أحس به من امتنان لكل ما مرّ بي من ألم فجعلني أعرف ذاتي وأكتشف نفسي الحقيقية وأرى كل ما حولي بعيون مختلفة ونظرة جديدة.

عبارة لم أتوقع قولها حتى لنفسي وأنا في خضم تجربة الخوف والوجع وتداعي الروح والجسد.. بيد أن لحظة الكشف التي طالما قرأت عنها وسمعتها وتحدثت بها وضمّنتـُها كتاباتي لم تكن أكثر من كلمة تضمر ما يضمره الغموض من سحر.. ولم تكن يوماً محسوسة فتشكل لي أسلوب حياة وطريقة يومية للتنفس والحب وعشق الحياة مثلما أصبحتُ أحسّ بها اليوم.

هي لحظة فقط.. لحظة حاسمة من تاريخ الإحساس بالأشياء وبالمعنى الحقيقي لكلمة وجود.. والإدراك العميق لما تعنيه رحلة الجسد في حياة قصيرة جداً وجديرة جداً بأن تعاش.. لحظة أدارت دفـّة الحلم لتجعله واقعاً يومياً معاشاً.. لحظة انكشفت من بعدها كل الصور وبدأت تتضح لتتناثر أمامي كل الأوراق والوجوه.. فصرت أرى ما تكتنفه الأقنعة والملابس التنكرية وما يكشفه العري إذ يُـزال الستار عن “آخريني” وأشيائي وكل ما حدث ويحدث حولي.

لم يعد لكلمة مغفرة من معنى بقدر ما صارت تعنيه كلمة تقبّـل.. تقبّل النفس والآخر والوجود الحاضر وما قد يأتي به الآتي من سحر دائم نستطيع بقليل من التركيز والإدراك أن نفهمه ونتقبله ونعيشه كما يجب.. مهما كان الموت حاضراً فينا أو معنا.

وصار ثمة معنى كبير لكل ما كان.. بعيداً عن مشاعرنا صوبه.. وأعني كل أنواع المشاعر.. ولأن الحاضر أو الآن أهم فإن للماضي أن يكون رائعاً إذا غذى الحاضر بالراحة والطمأنينة والسكينة.. وإلا فلن تكون ثمة قيمة لوجود أي مشاعر غير مفهومة تشغلنا عن حاضرنا وتلهينا عن التواصل أو الانغمار فيه.

صرت أحس أن كل ما مرّ بي من تجارب إن هي إلا رحلات منحتها لي الحياة بسخاء.. أيًّا ما كانت التجربة ومهما كان ألمها أو قسوتها أو غبطتها أو روعتها أو حياديتها وعاديتها.. صرت أحس أنني أتصفحها مثل كتاب جميل جدير بالقراءة.. يشدّني فضولي لإعادة قراءته أحيانا فألمس منه الحكمة أو القوة لمواجهة ما ستأتي به دقائقي وساعاتي القادمات.. دون أن أعير قلقاً وارتباكاً لما سيكون.

إحساس رائع لا غنى للنفس عنه.. بيد أنّي احتجتُ إلى الكثير من الألم والمعاناة والعذاب النفسي والجسدي لأصل إليه.. فلأننا بشر لابد لنا أن نبقى بشراً.. وأن نحسّ وأن نسير في دروب الحياة.. ولكن الأهم هو كيف نسير ومتى نتوقف لنتأمل فندرك.. وكيف نختار طريقنا ولماذا؟

الضعف صفة بشرية مثلما هي القوة.. والخطأ والصواب ثنائية نسبية تحتمل كل شيء.. وحتى الثوابت والمتغيرات قابلة للتدارك والتمعن وإعادة النظر أو إعادة التشكيل.

يقول مولانا جلال الدين الرومي “من لا يجري إلى فتنة الحب.. سيبقى يمشي طريقاً لا شيء فيه حي”.

وطالما كان للحب والعطاء والأمل مكان في أرواحنا ودواخلنا.. طالما صار للصبر والتحمل والتقبـّل مكان ومكانة عظيمة في حياتنا.. وصار للعمر معنى يتخطى حدود الزمن الكائن والوجود المجرد.. وصار للعمق جذر أشد تمسكاً بتربة الأرض التي وجدنا أنفسنا عليها ذات صدفة أو ذات قدر.

صباحكم كشف وإدراك وتجلٍّ..

21