"روز في دور جولي".. ذات هائمة لضحية اغتصاب

فيلم نفسي عميق يقحم مشاهِديه في محنة الشخصيات وشقائها.
الأحد 2021/03/28
الرحلة إلى الذات ليست سهلة

يعاني الكثير من الأشخاص الاغتراب والضيق والضبابية في رحلة البحث عن الذات، وهو ما تمكنت السينما على غرار الرواية الأدبية، من النبش فيه وتصويره ببراعة، لتقحم جمهورها في رحلة مع الشخصيات المتجسدة، هي في الحقيقة رحلة نحو الذات، التي قد لا تكون نهايتها كما نتوقع.

الدائرة المكانية المتّسعة بسعة الأفق قد تضيق مرارا في حياة الكائن، وهو نوع من الفقدان المكاني وعدم الانتماء وصولا إلى الاغتراب الكامل.

يبدو ذلك جليّا في فيلم “روز في دور جولي” ضمن مشاهد المناجاة والحوار الداخلي والضمني حيث لا صوت يعلو على صوت الذات الهائمة وهي تفيض بما في داخلها من ألم وشقاء ومعاناة أو جراح وأمنيات، وذلك ما تفْتتح به روز التي اسمها جولي (الممثلة آن سكيلي) في هذا الفيلم الذي أخرجه الثنائي جو لاولور وكرستين موللوي.

في دوائر التيه

هو سؤال الذات الهائمة الذي يمتد عميقا معبّرا عن تداخلات نفسية معقدة ومركبة وبموجبها يتم بناء السرد الفيلمي فيما روز تبحث عن نفسها من هي، من تكون وإلى أية عائلة تنتسب.

النهار المديد الذي تعيش فيه وسط تساؤلاتها الوجودية سوف تمضيه في تعلّم كيف تميت الحيوان موتا رحيما لتخليصه من معاناته، فهي طالبة في الطب البيطري وتشاهد تلك الكائنات المعذّبة وكيف يتم إنهاء حياتها وعذاباتها.

في المشاهد الأولى ثمّة ارتباك مونتاجي لا يشجّع على المتابعة لمن لا يصبر على ما سوف يلي من أحداث، فمن مشهد مناجاة روز على شاطئ البحر إلى مشهد فتيات في أماكن دراسية إلى شخص ما يمتطي حصانا.

الحوار المتقطع ومشاهد الصمت والشخصيات التائهة من بين العلامات الفارقة في هذه الدراما النفسية الوجدانية المؤثرة
الحوار المتقطع ومشاهد الصمت والشخصيات التائهة من بين العلامات الفارقة في هذه الدراما النفسية الوجدانية المؤثرة

ثغرة المشاهد الأولى لطالما يحذّر منها كتّاب السيناريو والمخرجون، لكن الصبر على تلك البداية الملتبسة سوف يحيلنا إلى ما هو شعري وإنساني وعواصف نفسية بدأت ولن تنتهي بسهولة.

عبر الهاتف تتصل روز بامرأة ما، وتعرّفها بنفسها، تجمد المرأة في مكانها فقد عصف بها الماضي بعنف، تلك هي أمّها التي رمتها في أحد الملاجئ حال ولادتها لأنها ثمرة اغتصاب.

تهرب المرأة من ماضيها فيما تحاول روز بكل وسيلة فتح صندوق ذلك الماضي، تفتعل أنها بصدد شراء منزل للبيع هو منزل أمها الحقيقية لا لشيء سوى لتلمس الأشياء التي تمتلكها الأم وكيف تعيش ولتكتشف أن لها أختا من أمها، فيما الأم تؤدي أدوارا تمثيلية لكن الدور الوحيد الذي تخفق فيه هو أن تتهرّب من الماضي.

الحوار المتقطع الدال والمجتزأ والمكثف، ومشاهد الصمت الطويلة واللقطات العامة التي تظهر الشخصيات في وسط دوائر التيه هي من العلامات الفارقة في هذه الدراما النفسية الوجدانية المؤثرة.

كان اسمه بيتر (الممثل أيدان غيلين) الباحث في الآثار، هو أبوها الحقيقي الذي فعل فعلته وترك إيلين (الممثلة أورلا برادي)، وها هي تتسلل لعالمه منتحلة صفة هاوية تنقيب، ولماذا النبش في الأرض؟ يخبرها بيتر بأنه يعشق الآثار لأن فيها نبشا في الماضي وكثيرا من المفاجآت.

عذاب تلك الحيوانات التي تنتظر الموت الرحيم، يشبه عذاب روز التي تريد موتا رحيما لإحدى الشخصيتين اللتين في داخلها، ومفاجآت النبش في الماضي التي تدفع بالأب المتصابي إلى أن يحاول التحرّش بالفتاة التي لم يكن يعلم أنها ابنته.

العودة إلى الجذور، إلى الذات الأولى هي تلك العلامة الفاصلة في تلك الدراما العميقة التي فيها الكثير من بصمات تجارب مخرجين كبار وعلى رأسهم السويدي إنغمار بريغمان والتشيكي كيشلوفيسكي، هناك حيث النساء يُمتحنّ في وجودهن ويعشن ما عاشته روز.

بانتقالات مكانية بارعة ما بين محطات الشخصيات الثلاث، روز والأم والأب المغتصب والأناني الطفيلي يتم نسج هذه الدراما الفيلمية البارعة، وحيث إنه بالإمكان أن تشعر بجراحات روز وصرخاتها الصامتة من خلال براعة أداء في التمثيل يجعلها جديرة بالتقدير.

فرحة تخفي الحزن

ليس هناك في هذه الدراما ما يفاجئك بحبكة ثانوية غير متوقعة سوى تلك المواكبة اليومية الاضطرارية التي يجد المشاهد نفسه جزءا منها، ولهذا سوف تتقبّل تحوّلات روز وثوراتها وبحثها الدؤوب عن ذاتها وحتى لحظة إجهازها على أبيها الضال دون أن تتمكن من قتله، لتتولى الأم تلك المهمة بحقنه بجرعة موت رحيم مخصصة لقتل الحيوانات التي تتعذّب.

حوارات ما قبل الموت وما قبل الولادة تتكامل في مشاهد مشحونة، ما بين قبول بيتر تلقّي تلك الحقنة مع علمه بنهايته، وبين إزاحة شخصية روز المصطنعة وولادة جولي وعودتها إلى حضن أمّها.

والإشكالية هنا ليست في رسم نهاية سعيدة، وإن كانت كذلك إلا أننا بصدد زوال تلك الطبقات المتراكمة داخل الذات والتي تجعلك جزءا من محنة الشخصية وشقائها، وحتى كل ما حولها يكمّل المهمة فالأجواء شتائية والتصوير في أيرلندا وسط غيوم داكنة طيلة أحداث الفيلم.

والحاصل أن الشعور بالسعادة سوف يكون نسبيا، لأن مساحة التجربة القاسية الوجودية هي أعمق من مجرد عودة الأم إلى ابنتها أو بالعكس، فهما ضحيّتا وجود ذكوريّ إشكالي وصل إلى ذروته في عودة بيتر لما كان قد فعله قبل عقود بالتحرّش بروز ومن قبلها فعلة الاغتصاب، والحال في هذه الدراما هي اللاحل واللاجدوى والفرحة الكامنة التي يغلّفها الحزن المديد.

سوف تتهشم الميلودراما والقصص الاجتماعية التقليدية والمعتادة أمام ثنائية الأم والابنة حيث كان لقاؤهما في معزل عن مجتمع وكأنهما لا تعيشان فيه ولا تنتميان إليه ولا يعنيهما بشيء لأن مجتمعهما الحقيقي هو ذاك المليء بالذكريات القاسية والأماني التي تمّ وأدها.

15