روبرت إيه سيجال: الخرافة قصة في الماضي أو الحاضر أو المستقبل

لا يتوجب على الحداثيين الاستغناء عن الخرافة من أجل العلم.
الخميس 2022/11/10
الخرافة تعتبر بلغة اليوم شيئا مغلوطا (لوحة للفنان بطرس المعري)

إذا أردنا التحكم في شيء ما علينا بداية تحديد مفهومه، وهذا ما سعت إليه الفلسفة ومن بعدها البحوث الثقافية التي تلاحق الظواهر لتعريفها قصد فهمها واستغلالها أفضل. ومن بينها مفهوم “الخرافة” الذي ما يزال ضبابيا عند الكثيرين ويعاني من خلط كبير، وهو ما يتصدى له الأكاديمي والباحث روبرت إيه سيجال.

استطاع أستاذ كرسي في قسم الدراسات الدينية في جامعة أبردين البروفيسور روبرت إيه سيجال في كتابه “الخرافة” أن يستعرض بدقة وسعة اطّلاع أهم النظريات التي سادت خلال القرنين التاسع عشر والعشرين حول الخرافة، مستخدما قصة أدونيس كمقياس فعال لتقييم مختلف المناهج والأساليب.

وتنبثق هذه النظريات من فروع معرفية عدة؛ كالأنثروبولوجيا وعلم الاجتماع وعلم النفس والنقد الأدبي والفلسفة والدراسات الدينية. وحلقة الوصل التي تربط بين هذه الفروع المعرفية جميعا هي الأسئلة التي تطرحها: ما أصل الخرافة؟ وما وظيفتها؟ وما موضوعها؟ وتختلف النظريات في إجاباتها عن هذه الأسئلة، بل تختلف أيضا في الأسئلة التي تركز عليها. ومن المنظِّرين الذين تناولهم الكتاب: تايلور، وفريزر، ومالينوفسكي، وإلياد، وليفي ـ ستروس، وفرويد، ويونج، وفراي، وجيرار.

ما هي الخرافة

يرى سيجال في كتابه، الذي ترجمه محمد سعد طنطاوي وراجعته إيمان عبدالغني نجم ليصدر عن مؤسسة هنداوي، أن النظريات الأنثروبولوجية للخرافة تعتبر نظريات ثقافية “مطبقة” على حالة الخرافة، كما تعتبر النظريات النفسية للخرافة نظريات عقلية، ونظريات علم الاجتماع للخرافة نظريات مجتمعية. فلا توجد نظريات للخرافة قائمة بذاتها، إذ لا يوجد مجال معرفي منفصل للخرافة. فليست الخرافة كالأدب الذي ـ مثلما كانت المزاعم التقليدية حوله دوما وما زالت قائمة ـ يجب دراسته “كأدب” لا كتاريخ، أو علم اجتماع، أو شيء آخر غير أدبي. فلا توجد دراسة للخرافة في حد ذاتها.

بوكس

ويرى أن ما يربط بين دراسة الخرافة في المجالات المختلفة التي توجد فيها هي الأسئلة المطروحة؛ وتتمثل الأسئلة الثلاثة الرئيسة المطروحة حول الخرافة في الأصل، والوظيفة، والموضوع. فيشير “الأصل” إلى السبب والطريقة التي نشأت بها الخرافة، وتشير “الوظيفة” إلى السبب والطريقة التي تستمر بها الخرافة في الوجود. وتتمثل إجابة السبب في أصل الخرافة ووظيفتها عادة في حاجة مّا تستثيرها الخرافة لتلبيتها، وتستمر من خلال مواصلتها في تلبية الحاجة. وتختلف الحاجة من نظرية إلى أخرى. بعض النظريات تفسر الخرافة تفسيرا حرفيا بحيث يتمثل المدلول في المعنى المباشر الصريح، مثل الآلهة، وفي المقابل، تفسر نظريات أخرى الخرافة تفسيرا رمزيا قد يكون المدلول المجسّد فيها أيّ شيء.

ويشير سيجال إلى أن النظريات لا تختلف فيما بينها في الإجابات التي تقدمها بل في الأسئلة التي تطرحها أيضا. فبينما تركز بعض النظريات، وربما بعض المجالات المعرفية، على أصل الخرافة، تركز نظريات أخرى على الوظيفة، فيما تركز نظريات أخرى على الموضوع. إضافة إلى ذلك، فيما لا تتناول الأسئلة الثلاثة سوى نظريات قليلة، لا تركّز بعض النظريات التي تتناول أصل الخرافة أو وظيفتها إلا على “سبب” أو “طريقة” النشوء فقط، لا على كليهما.

ومن السائد القول إن نظريات القرن التاسع عشر ركزت على سؤال الأصل، وإن نظريات القرن العشرين ركزت على سؤالي الوظيفة والموضوع. ويؤدي هذا التمييز إلى الخلط بين الأصل التاريخي والأصل المتكرر. ولا تزعم النظريات التي تدّعي تقديمها لأصل الخرافة معرفتها بمكان الخرافة للمرة الأولى وزمان ظهورها، بل بسبب وطريقة ظهور الخرافة متى وأينما ظهرت. وكان موضوع الأصل المتكرر للخرافة موضوعا شائعا في نظريات القرن العشرين مثلما كان كذلك في نظريات القرن التاسع عشر حاله حال الاهتمام بالوظيفة والموضوع.

ثمة اختلاف حقيقي واحد بين نظريات القرن التاسع عشر ونظريات القرن العشرين؛ فالأولى تنحو إلى النظر إلى موضوع الخرافة باعتباره العالم المادي، وإلى الوظيفة باعتبارها التفسير الحرفي أو التعبير الرمزي عن ذلك العالم. وكانت الخرافة تُعتبر على نحو نموذجي النظير “البدائي” للعلم الذي كان يُفترض حديثا في مجمله. ولم يجعل العلم الخرافة مجرد شيء لا لزوم له، بل جعلها غير متوافقة معه على الإطلاق؛ ولذا توجب على الحداثيين الذي كانوا علميين بطبيعتهم لفظها. في المقابل، لم تمل نظريات القرن العشرين إلى النظر إلى الخرافة باعتبارها نظيرا للعلم عفا عليه الزمن، سواء فيما يتعلق بالموضوع أو الوظيفة؛ بناء عليه، لا يتوجب على الحداثيين الاستغناء عن الخرافة من أجل العلم.

وحول تعريفه للخرافة يقول سيجال بادئ ذي بدء، أقترح تعريفا للخرافة كقصة. واعتبار الخرافة قصة ـ أيّا كان ما تمثله من أشياء أخرى ـ مسألة قد تبدو بديهية. وعلى أيّ حال، عندما نُسأل عن ذكر بعض أمثلة الخرافات، تجول بخاطر معظمنا قصص عن الآلهة والأبطال اليونانيين والرومان. في المقابل، يمكن النظر إلى الخرافة بصورة أعم باعتبارها معتقدا أو مذهبا، مثل “خرافة من الأسمال إلى الثروة” أو “خرافة الحدود” الأميركيتين.

بوكس

وبينما كتب هوراشيو ألجر العديد من الروايات الشهيرة التي تشرح خرافة تحول أشخاص من الفقر المدقع إلى الثراء الفاحش، فإن المذهب في حد ذاته لا يعتمد على قصة. وينطبق الأمر نفسه على خرافة الحدود. إن جميع النظريات المدروسة في هذا الكتاب تعتبر الخرافة قصة، وبينما يميل إي بي تايلور إلى تعميم ضمني، لا يزال التعميم يصل إلى القارئ عن طريق قصة. وبالمثل، بينما يتجاوز كلود ليفي ـ ستروس حدود القصة وصولا إلى “بنية” الخرافة، لا تزال البنية تعتمد على القصة في توصيلها. إضافة إلى ذلك، لا تزال النظريات التي تفسر الخرافة على المستوى الرمزي بدلا من التفسير الحرفي تنظر إلى موضوع الخرافة، أو المعنى، باعتباره سردا لقصة.

ويتابع إذن، إذا ما جرى هنا اعتبار الخرافة قصة، فما الذي ستدور القصة حوله؟ بالنسبة إلى دارسي المأثورات الشعبية بصفة خاصة، تدور الخرافة حول خلق العالم؛ ففي الكتاب المقدس، لا ترتقي سوى قصتي الخلق (سفر التكوين 1 ـ 2) وقصة جنة عدن (سفر التكوين 3) وقصة نوح (سفر التكوين 6 ـ 9) لمستوى الخرافات، بينما لا تمثِّل باقي القصص الأخرى سوى أساطير أو حكايات شعبية.

وبعيدا عن الكتاب المقدس، تعتبر “خرافة” أوديب ـ مثلا ـ أسطورة في حقيقة الأمر. إنني لا أرغب أن أكون متشددا للغاية وسأكتفي بتعريف الخرافة بأنها قصة تدور حول شيء مهم؛ فقد تدور أحداث هذه القصة في الماضي، مثلما كان الحال مع المؤرخ إلياد والعالم برونيسلاف مالينوفسكي، أو في الحاضر أو المستقبل. وفيما يتعلق بالنظريات المستقاة من الدراسات الدينية بصفة خاصة، يجب أن تكون الشخصيات الرئيسة في الخرافة آلهة أو أشباه آلهة.

ويتابع “لا أرغب هنا أيضا في أن أكون متشددا في تعريفي؛ إذ لو كنت كذلك، لاستبعدت معظم أجزاء العهد القديم الذي بينما قد تشتمل أحداث جميع قصصه على الإله ـ باستثناء الإصحاحين الأوّلين من سفر التكوين ـ فإنها تدور حول بشر مثلما تدور حول الإله. ولن أشدد هنا إلا على ضرورة أن تكون الشخصيات الرئيسة في الخرافات شخصيات إلهية أو بشرية أو حيوانية، ولن أستثني إلا القوى اللاشخصية، مثل “الخير” عند أفلاطون. ويُعتبر تايلور من أكثر المنظرين انشغالا بالجانب الشخصاني في الخرافات، وكذلك جميع المنظرين الآخرين، باستثناء ليفي ـ ستروس. وفي الوقت نفسه، يمكن أن تكون الشخصيات فاعلة أو مفعولا بها في أحداث الخرافات”.

شيء مغلوط

يلفت سيجال إلى أنه باستثناء رودولف بولتمان وهانز يوناس، تناول جميع المنظرين محل النظر في الكتاب وظيفة الخرافة، كما يركز عليها مالينوفسكي بصورة شبه حصرية. ويختلف المنظرون فيما بينهم حول وظيفة الخرافة. ولا يريد أن يملي في كتابه وظيفة الخرافة لكنه في المقابل يشير فقط إلى أهمية الوظيفة بالنسبة إلى جميع المنظّرين في مقابل الأهمية الأقل موالاة إلى الوظيفة في مجال الأساطير والحكايات الشعبية؛ بناء عليه، بينما يريد أن يشير إلى أن الخرافة تحقق شيئا مهما بالنسبة إلى المؤمنين بها، فإنه لا يحدد على وجه الدقة ماهية هذا الشيء.

في القرن العشرين جرى التوفيق بين الخرافة والعلم بإعادة صياغة الخرافة وليس من خلال إعادة صياغة العلم

يوضح أن الخرافة تعتبر بلغة اليوم شيئا مغلوطا، مثلا، في عام 1997 نشر المؤرخ ويليام روبنستاين كتاب “خرافة الإغاثة: لماذا لم تكن الدول الديمقراطية قادرة على إنقاذ المزيد من اليهود من النازيين”. ويسفر العنوان عن المعنى المراد، ويتحدى الكتاب القناعة السائدة بأنه كان يمكن إنقاذ الكثير من ضحايا اليهود من براثن النازيين، حال التزام الحلفاء بإنقاذهم. ويناهض روبنستاين الافتراضات القائلة بأن الحلفاء لم يكترثوا بمصير اليهود الأوروبيين نظرا إلى أنها كانت معادية للسامية. ومن وجهة نظره، يشير مصطلح “الخرافة” إلى تذبذب القناعة حيال الفشل في إنقاذ المزيد من اليهود، على نحو أكثر اكتمالا من استخدام عبارات ألطف مثل “اعتقاد مغلوط” و”سوء فهم عام”. وبذلك تعتبر “الخرافة” قناعة مغلوطة لكنها راسخة.

ويؤكد سيجال على أن نظريات الخرافة كانت في القرن التاسع عشر، إذا جاز التعميم من خلال نظريات تايلور وفريزر، التي ترى أن الخرافة تدور بالكامل حول العالم المادي. وكان يُفترض في الخرافة أنها جزء من الدين، الذي كان من المفترض النظير البدائي للعلم، الذي كان بدوره يُفترض كونه حديثا بالكامل. لكن في القرن العشرين، جرى استبعاد نظريات تايلور وفريزر لوضعهما الخرافة في مقارنة مع العلم ومن ثم استبعاد الخرافات التقليدية، ولإدراجهما الخرافة تحت الدين ومن ثم استبعاد الخرافات العلمانية، ولاعتبارهما أن موضوع الخرافة هو العالم المادي، ولاعتبارهما أن وظيفة الخرافة تفسيرية، ولاعتبارهما أن الخرافة زائفة.

تمثل الرد الأبرز في القرن العشرين على تايلور وفريزر في إنكار أن الخرافة لا بد أن تختفي عندما يحل العلم. فسعت نظريات القرن العشرين بتحدّ إلى الحفاظ على الخرافة بالرغم من وجود العلم. في المقابل، لم يجر ذلك من خلال رفض العلم باعتباره التفسير المهيمن للعالم المادي.

ولم تتخذ نظريات القرن العشرين هذه الطرق السهلة مثل “نسبنة العلم”، أو “جعله اجتماعيا”، أو “إضفاء الطابع الخرافي” عليه. بدلا من كل ذلك، أعادت تلك النظريات توصيف “الخرافة”. فهي لا تعتبر تفسيرا، بينما لا تزال تدور حول العالم، وفي هذه الحالة تختلف وظيفتها عن وظيفة العلم (مالينوفسكي، إلياد)، أو أن الخرافة، بتفسيرها رمزيا، لا تدور حول العالم المادي (بولتمان، يوناس، كامو)، أو كلا الأمرين “فرويد (رانك، يونج، كامبل). وفي القرن العشرين، جرى التوفيق بين الخرافة والعلم من خلال إعادة صياغة الخرافة، وليس من خلال إعادة صياغة العلم. ومع نهاية القرن العشرين فقط، مع صعود ما بعد الحداثة، تم التشكيك في التسليم بالعلم.

الخرافة

13