رواية تركية لا يمكنك أن تتعاطف مع بطلها المسحوق

ينتمي الكاتب صباح الدين علي (1907ـ 1948) إلى الواقعية التركية، وإن شئنا الدقة «واقعية القاع» التي تحتفي بالهامش وترصد البؤس الاجتماعي، وبالمثل رائف أفندي بطل رواية «مادونا صاحبة معطف الفرو» التي صدرت ترجمتها إلى العربية مؤخرا بتوقيع جهاد الأماسي، باعتباره نموذجا للبطل التراجيدي/ المهزوم القادم من التراجيديات الكلاسكية في الآداب العالمية كما في نموذج تشرفياكوف بطل قصة «موت موظف» عند أنطوان تشيخوف أو إيفان إيليتش عند ليو تولوستوي، أو حتى نموذج كامل رؤبة لاظ عند نجيب محفوظ في “السّراب”، فيسير إلى حتفه، حاملا مأساته وهواجسه ويندفع بكل رضاء إلى نهايته باستسلام مقيت.
الرجل الجوف
نموذج شخصية رائف أفندي في رواية «مادونا صاحبة معطف الفرو» التي صدرت مؤخرا عن دار أثر للنشر، مسالم إلى درجة النفور منه، فهو على حد تعبير مديره في البنك الذي يعمل فيه كمترجم «رجل بسيط وهادئ، مشغول بنفسه، ولا يصيب ضرره أحدا» يستدعى في الذاكرة بعد اكتمال قصته مع ماريا في رحلته بألمانيا، ثم عودته ومواجهة نسبائه الباردة والسّلبية وهم يستولون على ميراث أبيه من مصانع الصابون، وحقول الزيتون، ولا يتركون له إلا الفتات، وسلبيته الموجعة في رحلة بحث أمه عن الكنز المدفون، وسط ضحكات نسبائه الساخرة، الرجال الجوف الذين ذكرهم إليوت في قصيدته الأرض الخراب وهو يقول: نحن الرجال الجوف / نحن سقط المتاع / … فصوتنا يباب / بلا معان نحن خامدون / كالريح تعوي في يابس الحقول والفجاج…إلى آخر الأوصاف.
هكذا هو رائف أفندي الموظف المثالي الحريص على عمله حتى في أوقات مرضه. حالة المثالية التي هو عليها في العمل تقابلها معاملة سيئة من أقربائه في البيت، فصار هو والعدم سواء، لا وجود له إلا في تلبية طلبات البيت.
الكارثة الحقيقية التي تُظهر هذه السّلبية أن الرجل بالفعل اختار طريق النهاية بإرادته، هو مشهد رؤيته لصديقته الألمانية فراو فان تيدمان، أثناء زيارتها لأنقرة هي وزوجها تاجر المستعمرات، كانت الحيرة بادية عليه؛ هل يسألها عن ماريا بودر أم لا؟ وبين رغبته وتردُّده، يأتي السّؤال، وتأتي الإجابة المفزعة، إنها ماتت بعد أن قضى الرّجل عشر سنوات من عمره وهو في أوهام أنّها خانته، عاش عشر سنوات كارها للحياة والناس يقمع نفسه بهذه الزيجة وهذه الأسرة التي تستغله ماديا وتقهره معنويا، كأنّه سجين ينتظر هذا اليوم. لكن الصدمة الحقيقية عندما علم بملخص ما حدث لها بعد عودته من برلين إلى بلده، إثر وفاة والدته، بمرضها عندما عادت إلى براغ، وحَمْلها ثمّ اعتلال صحتها ومحاولة الأطباء إنقاذها، لكنها فضّلت إنقاذ الجنين على حياتها، كان كل شيء يقول إن هذه الفتاة التي تبلغ الثامنة أو التاسعة من العمر هي ابنته، لكن تحرك القطار دون أن يسأل عن اسمها، أو حتى ينظر في عينيها.
الصدفة هي أحد العناصر المشكلة للأحداث في الرواية بل تلعب دورا مهما في إحداث الإثارة والتشويق داخل النص
في الحقيقة لا يمكن لقارئ رواية مادونا أن يتعاطف مع بطلها، رغم ما مرّ به من مآس سواء وهو يتذكر ماضيه ونشأته في إحدى مدن غرب تركيا، أو طفولته وما شهدته من حالة اللا وفاق بينه وبين أبيه، فالمشاعر بينهما جامدة، ولا يعرف بماذا يجيب إن سأله أحد عن أبيه: هل هو جيد أم لا؟
الدفتر الأسود
الرواية مكتوبة منذ زمن بعيد ما يقرب من خمسة وسبعين عاما وإن كانت ترجمتها إلى العربية تأخّرت كثيرا، لكن الملاحظ أن الكاتب يعمد في روايته إلى تقنيات حداثية، لم تكن معروفة في كتابات الروائيين الأتراك وقتذاك، وهو ما يضع الكاتب في قائمة المجددين، فالكاتب وزّع حكايته على حكايتين، وهو ما يدخل النص تحت بنية «الرواية داخل الرواية». فالجزء الأول يسرد بلسان راو غائب هو صديق مدير البنك حمدي الذي يعمل فيه رائف أفندي ثم سيعمل به الراوي لاحقا، يسرد مأساته الشخصية بعدما فقد عمله، إثر سياسة تقشف كاذبة، وبعدها يتصادف مع صديق المدرسة حمدي مدير البنك الذي يصطحبه إلى البيت ثم يلتقيه مرة ثانية في البنك، يكون عندها قد وفّر له فرصة عمل.
هكذا يلتقي الاثنان (الراوي ورائف أفندي) في مكتب واحد، فيبدأ الراوي في تتبع شخصية رائف أفندي في مكتبه وبيته بعد تعرضه للمرض، إلى أن يطلب منه رائف أفندي بعد أن اشتدّ عليه المرض أن يجمع أشياءه من المكتب، ومن ضمنها الدفتر الأسود الذي يطلب، في رجاء، رائف أفندي منه حرقه، إلا أنه يتوّسل إليه أن يسمح له بقراءته لليلة واحدة على أن يرجعه له في الصباح، يقبل، ومع فتح الصفحات الأولى يختفي الراوي الغائب ليحل الراوي الأنا العائد على رائف أفندي، حيث نعرف أنه سجل هذه الأحداث بعد عشر سنوات من حكايته مع مادونا التي هام بصورتها قبل أن يتعرف على صاحبتها ماريا بودر يوم ذهب إلى المعرض صدفة.مارسيل بروست التي صاغها في الزمن المفقود، «بأن الماضي لا يزال يكمن في نفوسنا، وبصورة محفوظة تماما، والحل الوحيد لاستحضار الماضي الذي هو أشبه بكنز مفقود هو استعادته بالكتابة عنه كتابة مفصلة»، وهو ما كان حاضرا في القسم الثاني.
لا يمكن لقارئ رواية مادونا أن يتعاطف مع بطلها
تتناثر ملامح الواقعية أو واقعية القاع في أعمال الكاتب الروائية الثلاثة: كويجاكلي يوسف 1937، والشيطان في أعماقنا 1940، مادونا صاحبة معطف الفرو، ولكن الرواية الأخيرة، رغم أن الكاتب بدأها وهو متأثر بالواقعية في صورة شخصية رائف أفندي، لكن تأخذ الرواية بعدا رومانسيا في الحكاية الثانية، وهو ما أفقد الجزء الأول تأثيره على الأحداث، وجاء أشبه باستهلال باهت لم يحسن استغلاله، مع أن رصد واقع الأسرة البرجوازية في عراكها مع هذا الواقع، وصراعها الصامت مع طبقتها في رأيي كان أعمق من قصة الحب. وهذا الأمر حدا بالشاعر ناظم حكمت الذي كتب أوّل نقد لها، إلى أن يغضب من رواية أحبها، فهو يرى «أن القسم الأول كان على وشك أن يتوسع في تحليل الوجه الخفي لعائلة بورجوازية جديدة بطريقة عظيمة».
نجح المترجم في إبراز الحالة التي كان عليها بطله من حزن شفيف لفقده محبوبته، وانكساره الداخلي لخيانتها كما توهم، وهو ما انعكس على الإيقاع الداخلي للرواية الذي بدا حزينا متجاوبا مع انكسارات وهزائم الشخصية، حتى في حبها.