رواية إيطالية عن تقديس الاستبداد

بالغت بعض الأعمال الأدبية في وصف الإمبراطور والحديث عن حياته وسيرته، حتى ترسّخت في الذهن صورة ذلك الطاغية المستبد الذي لا همّ له سوى الحفاظ على مملكته مهما كان الثمن، والحقيقة أن العديد من الروايات تجاسر كتّابها على الخوض في حياة بعض الأباطرة ودخلوا عوالمهم التي ظلت مغلقة، كاشفين أسرارهم وطبيعة عيشهم، وهو ما لم يفعله الكثيرون نتيجة الخوف من الاقتراب من أسوار وحصون الممالك مترامية الأطراف وخشية من نهاية قد تكون مجهولة العواقب.
الثلاثاء 2016/07/19
إمبراطور مهزوم (لوحة للفنان الفرنسي جورج رول)

تدور أحداث رواية “البحث عن الإمبراطور” للكاتب الإيطالي روبرتو باتسي حول قصة فيلق روسي ضل طريقه في سيبيريا أثناء الثورة البلشفية، خلال رحلة بحثه عن القيصر الأسير.

إنها قصة ذلك الهاجس الذي استحوذ على الكاتب منذ رأى، وهو طفل صغير، لوحة تجسّد القيصر وأسرته وعرف أنهم كانوا في المنفى، ذلك الهاجس الذي تجسد في هوية حكي مزدوجة: الإمبراطور والباحثون عنه، وهم يدركون استحالة ما يقومون به.

وتتخذ الرواية خطا خياليا حالما قليلا ما كان يستخدم في الأدب الإيطالي في القرن العشرين، حيث تمزج الرواية بين الوقائع التاريخية والمتخيلة، ما يشعرنا ونحن نقرؤها بأننا شهود عيان لأحداث لم تجر قط أو لعلها حدثت خارج مدى أبصارنا وحياتنا.

تبدأ أحداث الرواية، الصادرة عن دار “بعد البحر” بالتعاون مع المركز الثقافي الإيطالي في القاهرة وترجمتها عن الإيطالية هبة فاروق، بوصول الفيلق العسكري إلى قرية فقيرة وصغيرة تسمى فاكيتينو، وهي واقعة على أطراف سيبيريا.

عند وصوله يفاجأ قائد الفيلق بأن القرية معزولة عن العالم بفعل انقطاع خطوط التلغراف، فيقرر استكمال مسيرته من دون أن يدرك ما آلت إليه الأمور في عاصمة الإمبراطورية، فقد كانت آخر الأخبار المتواترة من هناك تفيد بحصار المتمردين للقيصر واحتجازه في مدينة توبولسك.

كان الواجب العسكري يحتّم على قائد الفيلق بأن يسرع في التوجه إلى تلك المدينة النائية من أجل تحرير القيصر من دون أن يتلقى أي تعليمات أو تتوفر لديه معلومات عن تفاصيل الأحداث. يكمل قائد الفيلق مسيرته مدفوعا بإخلاصه الشديد هو وجنوده للإمبراطورية. هكذا تمضي الأحداث، فالقائد يتأهب لرحلة لا يعرف طبيعتها وغير واثق من نتائجها، مخاطرا بحياة جنوده وغير عابئ بالنتائج.

الحاكم والرعية

هكذا هم الطغاة لا يدركون الحقيقة، هم غالبا ما يشعرون بأن العناية الإلهية قد اختارتهم دون غيرهم للحكم

ترسم لنا أحداث الرواية المستندة إلى وقائع تاريخية صورة تفصيلية متخيّلة عما حدث. يتعلق الجانب الأكبر من هذه الصورة المتخيّلة بطبيعة العلاقة بين الحاكم والرعية، فإسكافي القرية بوريس يتوسّل بكل الطرق من أجل اللحاق بالفيلق المدافع عن الإمبراطور، وهو يغلق على نفسه أياما طوال متناسيا متطلبات أسرته كي يصنع نعلا يليق بالقيصر.

فـ”الرجال مثل بوريس هم الإمبراطورية”، كما يقول قائد الفيلق لأحد مساعديه. “كان بوريس الإسكافي قد أتى ليطلب الرحيل مع الفيلق، لأنه لم يكن يستطيع أن يمكث ليركب نعال أحذية، بينما القيصر يستدعي الأوفياء له للمسير نحو بطرسبرغ المتمردة”، وهو يتماهى مع تفاصيل حياة الإمبراطور إلى الحد الذي يشعر فيه بالتعاطف مع أبنائه، وهو الإسكافي الفقير الذي يوفر بالكاد قوت يومه.

بعد أن أقنعه قائد الفيلق بالمكوث في القرية وانتظار أخبار النصر على المتمردين، يعود بوريس إلى منزله أكثر هدوءا ويسمح لبناته في ذلك اليوم بأن يذهبن لتحية الجنود الذين كانوا يرحلون، وهو يفكر في ابنتي القيصر أولغا وتاتيانا، الفتاتين المسكينتين اللتين ليست لهما الحرية الكافية للتمتع بسنواتهما العشرين “ينبغي على القيصر أن يدرك أن الصغار هم الصغار”، يقولها الإسكافي الفقير من دون أن يتسرب إليه أدنى شك في انتصار العناية الإلهية لأسرة القيصر.

ينتقل صوت الراوي هنا بين الباحثين عن القيصر من الجنود وقادة الفيلق وبين أسرة القيصر التي تنتظر مصيرها داخل أحد البيوت النائية على أطراف الإمبراطورية، حيث تتداعى الذكريات بين مشاعر الخوف التي تسيطر على الإمبراطور وأبنائه. يبدي القيصر دهشته- مدفوعا بأوهامه وخيالاته- لهذا العصيان والتمرد اللذين اقتلعهما من فوق عرش الإمبراطورية.

الطغاة والحقيقة

عصيان وتمرد يقتلعان سلطة من فوق العرش

هكذا هم الطغاة، لا يدركون الحقيقة، هم غالبا ما يشعرون بأن العناية الإلهية قد اختارتهم دون غيرهم للحكم، “قلب القيصر بين يد الرب، فلا يمكنه أن يخطئ”، هكذا كان القيصر يتذرع دائما أمام رغبته المحمومة في الانفراد بالسلطة، كما يبدي ألكسيس ولي العهد عدم تصديقه ودهشته من الأمر “ليست لهؤلاء الجنود الذين يقومون بحراستهم الآن أي علاقة بأولئك الجنود الذين كانوا في توبولسك وتزاركوسيلو، فهم يناصبونه العداء هو وأسرته في نواح كثيرة، حتى وصل بهم الأمر إلى أن ينادوا والده نيقولاسكا بـ’السفاح’.

كم هم مختلفون هؤلاء الجنود. أيعقل أن يكون هؤلاء هم جنود القيصر حقا؟” يتساءل ولي العهد في دهشة غير مدرك لما يحدث من حوله، في المقابل يستمر الفيلق في السير نحو توبولسك، حيث يُحتجز القيصر.

يبدو الطريق وعرا، لكن الجنود لا يزالون مؤمنين بقداسة قضيتهم في الدفاع عن القيصر، غير أن هذا الإيمان العميق الذي يشعر به الجنود يبدأ في التلاشي شيئا فشيئا أمام قسوة الطريق وتسرّب الأخبار المتواترة التي تفيد بسقوط النظام الإمبراطوري، ما يبث الوهن في العزائم، ويسقط معظم جنود الفيلق بين مشكك وعازم على الفرار، وبين مشرف على الجنون، حتى ينتهي بهم الحال جميعا تائهين في صحراء سيبيريا من دون إتمام لمهمتهم المقدسة.

روبرتو باتسي هو شاعر وروائي وصحافي إيطالي ولد في العام 1941. تخرّج في جامعة بولونيا واختص في الأدب الكلاسيكي ويعيش حاليا في مدينة فيرارا، حيث يقوم بالتدريس في جامعتها، وينظم حاليا دورات تعليمية في الكتابة الإبداعية، كما يقوم بنشاط مكثف كمحاضر في العديد من دول العالم التي انتشرت فيها أعماله. ترجمت أعماله الروائية إلى أكثر من ست وعشرين لغة ويعد واحدا من أهم الكتاب الإيطاليين.

بدأ باتسي حياته الأدبية كشاعر وأصدر مجموعته الشعرية الأولى “الخبرة السابقة” عام 1973، ثم “أبيات غريبة” عام 1976، و”الملك والكلمات” عام 1980. اتجه بعد ذلك إلى الرواية وكانت باكورة أعماله الروائية هي “البحث عن الإمبراطور” عام 1985، وقام بعدها بإصدار 19 رواية، ومن أحدث هذه الروايات “بعد الربيع”، و”يؤسفني أنني سأموت لأنني لن أراك مرة ثانية” و”غرفة فوق الماء” و”الوريث” و”شفافية العتمة” و”إنجيل ياهوذا”. وفاز باتسي بالعديد من الجوائز الأدبية الإيطالية المهمة مثل جائزة كامبلو، وجائزة جرينتسان كافو.

14