رواية أخرى للتاريخ

ليست كل الأسلحة التي استخدمها الغرب خشنة؛ هناك أسلحة ناعمة كانت أشد فتكا وأكثر فاعلية في تحقيق سيطرته على العالم.
الجمعة 2023/06/16
تيك توك.. الخيار الأول للباحثين عن الأخبار

لا يوجد عاقل يختلف مع الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش في قلقه على سلامة المعلومات في المنصات الرقمية؛ فقد تؤدي إلى “إذكاء الصراع وتهديد الديمقراطية وحقوق الإنسان والإضرار بالصحة العامة وتقويض الجهود المناخية”.

ولكن، هل هذا الضرر أمر طارئ؟ ألم تُثرْ حكومات غربية الصراع في أكثر من منطقة؟ وهل كانت حقوق الإنسان في معتقل غوانتانامو مصانة؟ ألم تتحالف تلك الحكومات مع الشركات الكبرى وتتستّر مدة طويلة على الأضرار التي يلحقها تدخين السجائر واستهلاك السكر بصحة الإنسان ومازال البعض منها يعمل جاهدا على تقويض الجهود المناخية المبذولة؟

منذ عام 1950 شنت الولايات المتحدة خمس حروب كبيرة إضافة إلى العمليات العسكرية الصغيرة، ولم تحقق أي حرب منها السلام، ولم تغير مصير شعوب المناطق التي كانت مسرحا لتلك الحروب إلى الأفضل، بل تركتها أسوأ مما كانت عليه؛ بدءا من حرب كوريا وصولا إلى حرب أفغانستان ومرورا بحرب فيتنام وحرب الخليج الأولى والثانية.

واستطاعت الولايات المتحدة، التي لم تحقق انتصارا في أي من الحروب الخمس التي شنتها، أن تنتصر على روسيا ونظامها البلشفي دون أن ترسل أي جندي أو قطعة سلاح إلى هناك؛ ألحقت الهزيمة بها عن بعد، هزمتها بكتابتها للتاريخ وسيطرتها على الإعلام.

ليست كل الأسلحة التي استخدمها الغرب خشنة، هناك أسلحة ناعمة كانت أشد فتكا وأكثر فاعلية في تحقيق سيطرته على العالم؛ فإلى جانب الإعلام استخدم الغرب الفن والأدب والسينما والمسرح لرواية التاريخ بالطريقة التي تخدم مصالحه.

المزيد من الناس يعزفون عن متابعة الأخبار من خلال وسائل الإعلام التقليدية؛ إنهم يتجهون إلى وسائل التواصل الاجتماعي ومواقع البحث التي تعززت قوتها اليوم بروبوتات الدردشة

وأوضح الأمثلة على ذلك حملة التخويف التي أثارها جوزيف مكارثي عضو مجلس الشيوخ الأميركي في خمسينات القرن الماضي وتحولت إلى هستيريا. ونجحت الحملة التي عرفت بالمكارثية في تشويه سمعة وإقصاء الكثير من الموظفين والسياسيين والفنانين والصحافيين والمثقفين في الولايات المتحدة نفسها.

بوشكين ودوستويفسكي وتولستوي وتشيخوف الذين أنجبتهم روسيا أقنعونا بأن العقم أصابها بعد عام 1917. جرى التركيز فقط على الفنانين والأدباء الذين غادروا الاتحاد السوفييتي، أمثال أرتشيينكو ومالفيتش وشاغال وكاندينسكي وسولجنستاين.

لم نسمع بعد ذلك عن روسيا إلا ما أراد الغرب أن نسمعه.

ألمانيا الغربية لم تخض حربا بالسلاح لاسترجاع القسم الشرقي، حربها كانت إعلامية؛ قنوات وإذاعات تبث على مدار 24 ساعة موجهة إلى ألمانيا الشرقية، مثل راديو فرايهارت (حرية) وفوز (صوت) وآر دبليو أف (إذاعة ألمانيا الغربية).

والصين التي قدمت تنازلات كثيرة للغرب وتحولت إلى ورشة تنتج بضائعه لم تنج هي الأخرى من حملات التشويه. ولم تتوقف حملات الشيطنة التي تستهدفها إلى اليوم.

حرب السيطرة الثقافية والاقتصادية على العالم لم يضع حدا لها تفكك الاتحاد السوفييتي وخروج دول أوروبا الشرقية عن سيطرته وعودتها إلى المعسكر الغربي.

يغامر كل من يفكر بهذا الاتجاه بتصنيفه بين المروجين لنظرية المؤامرة، وهي تهمة جاهزة يرمى بها كل من يشكك في نبل الغرب ودوافعه الإنسانية!

هكذا مارس الغرب التخويف طوال تاريخه الكولونيالي وما بعد الكولونيالي، معتمدا التفسير الانتقائي لرواية الأحداث، ومستعينا بآلة إعلامية جهنمية وفرتها له ثروات طائلة جناها من دول استعمرها، وراح يصور نفسه على أنه مبتدأ الحضارة الإنسانية ومنتهاها، وأنه قوة إرشادية خيرة لا يأتيها الباطل!

السؤال الذي يفرض نفسه اليوم هو: بوجود مثل هذه التكنولوجيا هل يستمر الغرب في رواية التاريخ وفق مصالحه، أم أن روايات أخرى للتاريخ ستظهر قريبا؟

اليوم يلقي الغرب، المذعور من فكرة فقدانه السيطرة على كتابة التاريخ، التهم جزافا محذرا من امتلاك دول في العالم الثالث التكنولوجيا الذكية، وناسجا سيناريوهات خرافية تهدد مصير البشر.

العالم يتغير، ليس فقط تكنولوجيًّا واقتصاديا بل ثقافيا وحضاريا أيضا. هيمنة الغرب على صياغة التاريخ وكتابته أوشكت على الانتهاء ومعها ستنتهي هيمنة الغرب على الإعلام.

إنها تطورات لم يكن بالإمكان تخيلها قبل ثلاث سنوات، وحتى قبل عام، تحدث الآن والغرب يقف عاجزا أمامها بعد أن أدرك أنه لا يستطيع إيقافها أو التحكم فيها.

وهناك مؤشرات عديدة تؤكد أن السيطرة الثقافية للغرب بدأت تنهار. ساعد على ذلك انتشار وسائل الاتصال والتطورات المتسارعة في تطبيقات الذكاء الاصطناعي. أهم هذه المؤشرات ما يحدث على الصعيد الإعلامي.

المزيد من الناس يعزفون عن متابعة الأخبار من خلال وسائل الإعلام التقليدية؛ إنهم يتجهون إلى وسائل التواصل الاجتماعي ومواقع البحث التي تعززت قوتها اليوم بروبوتات الدردشة.

وفي مقدمة مواقع التواصل تيك توك الذي يستخدمه 20 في المئة ممن ينتمون إلى الفئة العمرية بين 18 و24 عاماً، وفق تقرير نشره معهد رويترز لدراسات الصحافة.

مدير المعهد راسموس نيلسن أشار في التقرير إلى المصير الذي ينتظره الإعلام التقليدي قائلا “ليس هناك أساس منطقي لنتوقع أن مواليد الألفية، لأنهم أصبحوا أكبر عمرا فحسب، سيفضلون فجأة المواقع التقليدية على الإنترنت، ناهيك عن وسائل الإعلام عبر البث المرئي والمسموع والمطبوعات”.

الرسالة واضحة، لن تستطيعوا بعد اليوم أن تملوا علينا ما يتوجب أن نقرأه ونشاهده ونسمعه. ليديكم إعلامكم، ولدينا إعلامنا. لديكم أستوديوهات للإنتاج السمعي والبصري، ولدينا الذكاء الاصطناعي. لديكم مؤسساتكم الضخمة للترويج والتسويق، ولدينا فضاء مفتوح نحلق به.

والسؤال الذي يفرض نفسه اليوم هو: بوجود مثل هذه التكنولوجيا هل يستمر الغرب في رواية التاريخ وفق مصالحه، أم أن روايات أخرى للتاريخ ستظهر قريبا؟

الحرب لن تكون سهلة.. من المبكر جدا تحديد الفائز فيها.

12