روائيو حركة الرواية الجديدة في أميركا اللاتينية بدأوا من القصص

"أستيلا تسمع أصواتا في الخزانة" مختارات من أهم قصص أميركا اللاتينية.
الاثنين 2025/05/12
كتّاب حاولوا الانكفاء على الذات والابتعاد عن الهمجية (لوحة: محمد عمران)

القصة القصيرة في أميركا اللاتينية تُعدّ واحدة من أغنى الأشكال الأدبية، لعبت دورا محوريا في التعبير عن الهوية الثقافية، والسياسية، والاجتماعية لشعوبها. كونها نشأت وتطورت في سياقات خاصة، تميزت بالفقر، والصراع، والاستعمار، ومن ثم الثورة والتحرر، وهو ما أضفى على نصوصها خصوصية وفرادة تمثلت في سمات من أبرزها: الواقعية السحرية، والأسطورة والفلكلور والنقد.

حملت الأنطولوجيا التي اختار قصصها وترجمها وقدم لها الشاعر والروائي طلعت شاهين، وصدرت عن دار الرافدين بعنوان “أستيلا تسمع أصواتا في الخزانة”، مختلف تجليات القصة القصيرة في أميركا اللاتينية، وذلك من خلال أهم كتابها الذين يمثلون المناطق الرئيسية من الإبداع الأدبي هناك. من بينهم: غابرييل غارسيا ماركيز، خوان رولفو ، خوليو كورتاثار، مانويل روخاس، خوان خوسيه أريولا، لويس أرتورو راموس، روبين داريو، خورخي لويس بورخيس، خوستو استيبان استيفانيل، ماريو بنيديتي، أرتورو أوسلار بيتري، سانتياجو راميرو ميرينو.

يؤكد شاهين في مقدمته التي أرخ فيها لتطور القصة القصيرة في أميركا اللاتينية أن “أميركا اللاتينية قارة بكر، لا تزال ثمارها الناضجة معلقة على أشجار الأدب، وسكانها لا يملكون التمتع بهذه الثمار الطيبة نظرا إلى الفقر، والأمية المنتشرة كالوباء، فالواقع مفجع دموي، والأسطورة، والخرافة، والرعب والموت تمتزج بكل دقائق الحياة، الحياة أسطورة، والأسطورة واقع حياتي معيش، الإنسان في تلك البلاد يولد منذورا للموت، ومن ينجُ من الموت على أيدي العسكر، والدكتاتوريات العسكرية، يدخل مظلة الرعب اليومي، من يزرع لا يحصد، ومن يصنّع يحمل إنتاجه على ظهره ليسلمه للشركات متعددة الجنسيات، أو لتجار المخدرات، ومافيا التهريب، الذين يتحكمون في كل شيء، بل كثيرا ما يحلون محل الدولة في تقديم الخدمات الرئيسية التي تساعد إنسان أميركا اللاتينية على الاستمرر في الحياة ليواصل الإنتاج لصالح الغير.”

الحداثة اللاتينية

ا

يرى شاهين أن الكتابة القصصية الرائعة، والروائية دخلت مرحلة نضوجها مع بدايات القرن العشرين، كنتيجة لانعكاس الأحداث التاريخية التي مرت بها بلاد تلك المنطقة، فقد حدث خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر أن شهدت تلك المنطقة إعادة التركيب الاجتماعي، والاقتصادي، والسياسي، وظهور اتجاهات سياسية، وفكرية جديدة نمت مع النضال ضد الاستعمار الأوروبي الذي كان يتصارع فيما بينه على هذه الأرض “الجديدة”، ولكن تلك الفترة شهدت في مجال الكتابة القصصية سيطرة اتجاه “الواقعية – الطبيعية” الذي كان بدوره خاليا من التقنية أو الحرفية في الكتاب، وكان الكاتب في تلك الفترة واعيا بأنه يمتلك فقط خيوط لعبة الكتابة، وتحريك الشخصيات دون اهتمام كبير بجمالية الكتابة.

بالمقابل كان هناك تأثير يتمثل في “الحداثة” المحلية التي ميزت الكتابة النثرية بطابع تجديدي، فقد ولدت هذه الحداثة على يدي الشاعر روبين داريو الذي كان يوشي الكتابة بالشاعرية سواء في التعبير، أو الموضوع الذي يتناوله، مما أثرى الكتابة القصصية، والروائية في أميركا اللاتينية، لأن كتَّاب تلك المرحلة رفعوا شعار الشاعر الذي طالب بالعمل، والعمل الجاد من أجل تنقية اللغة “القشتالية” في أميركا في نفس الوقت من خلال الكلمة والإيقاع، والتشكيل، والتجديد في المعاني.

ويلفت إلى أن هذا التجديد كان يعتمد على الموضوعية، والتفرد التشكيلي للمعاني التي تفردت بها أميركا اللاتينية عن شبه الجزيرة الإيبيرية، مما أدخل العديد من التجديدات على هذه اللغة، وعلى الأخيلة، والمحسنات البديعية التي كانت تستخدمها، مما ساعد الكتاب على زيادة قدرتهم على الإبداع خارج نطاق القواعد المتعارف عليها حتى تلك اللحظة، فأدى ذلك إلى التجديد في إعادة تشكيل الجمل، وتجديد الإيقاع الموسيقي للكتابة النثرية. وهذا أدى إلى أن يتمتع كتَّاب الحداثة بقدرة فائقة على هضم وتمثل الثقافات الأخرى، وخلق إبداعات جديدة تتولد عما هضموه من قراءات في اللغات والآداب الأخرى، وعبّر عن هذا فيدريكو دى أونيس بقوله “استطاع الكاتب في أميركا (اللاتينية) أن يهضم في داخله كل ما جاء من الخارج، وتماما كما كانت شعوبه تهضم الهجرات الخارجية القادمة إليها، والتي كانت تفد عليها خلال سنوات الحداثة مما أدى إلى حدوث امتداد سكاني ضخم لخليط من الأجناس كونت في النهاية تركيبة هذه الشعوب.”

ويضيف أن تطور الكتابة القصصية في إطار الحداثة كان في مجال قوته الدافعة خلال الفترة من 1883 إلى 1920، وكان في طليعة الموجة الأولى من كتّابها: مانويل جوتريث ناخيرا، روبين داريو، خوسيه مارتي، خوليان ديل كاسال وأمادو نيرفو، أما الموجة الثانية فقد تمثلت في مانويل دياث وأنخيل استرادا وكليمنتي بالما وانريكيث جوميث كاريو. لكن كتاب “قصص هشة” للمكسيكي جوتيريث ناخيرا الصادر عام 1883 كان البداية لهذه الحركة الحداثية التي حاولت تحرير فن الكتابة وتجديده هناك، فقد كانت هذه القصص تعتمد على التجديد اللغوي، والتركيز الدرامي اللذين تكررا فيما بعد في الكتابات التالية، التي نشرها الكاتب في كتب أخرى، أو من خلال ما كان ينشره في الصحافة اليومية المهتمة بالكتابة الأدبية.

بي

ثم جاء كتاب روبين داريو “أزرق” الصادر عام 1888 ليؤكد على هذا التجديد، ويبدأ الثورة الأدبية التي ذهب تأثيرها إلى أبعد من بلاده، ومن بعده قام خوسيه مارتي بالتأكيد على جمالية النثر الشعري في كتاباته خاصة “صداقة مشؤومة” الصادر عام 1885، وجاء أمادو نيرفو لينقل إلى كتاب المراحل الجديدة نظرية الكتابة في إطار الحداثة: “حقيقة أنه لكتابة القصة القصيرة ليس من المفترض استخدام التخيل دائما، فالكاتب يرى الحياة تجري من حوله، وقد يفاجئه مشهد، أو ملمح معين، فيقطف من هنا وهناك أشياء متفرقة، سواء كانت واقعية أو أشخاصا من حوله، أما ما يحدث بعد ذلك في الكتابة فهو قليل: تنظيم تلك الملاحظات وتشكيل القصة منها”. وتبلغ الكتابة الحداثية قمتها عام 1908 بصدور كتاب “مجد دون راميرو” للكاتب الأميركى لاريتا، وهي كتابة تعتمد على التجديد التعبيري، ونضارة التخيل، وهو ما مهد الطريق أمام اللاتينية، والعالم كله باسم “الواقعية السحرية”.

ويوضح أن هذه الحركة الحداثية واجهت معركة مع التجديد الأوروبي التابع للحركة “الطليعية” التي شهدتها فرنسا وانتقلت بعد ذلك عبر البلدان الأوروبية الأخرى، لكن التواصل مع هذه الحركة بين بلادهم، وأسبانيا باعتبارها البوابة الكبرى إلى العالم القديم، وفي عام 1910 واجهت الحداثية الأميركية اللاتينية أول معركة مع التجديد القادم عبر المحيط، عندما تمرد الشاعر التشيلي فيثنتى هويدوبرو على الزخرفة الحداثية في محاولة لتشكيل لغة جديدة للكتابة الأدبية، والاقتراب بها من اللغة العالمية التي بدأت تتطور في بلاد أخرى.

وقدم هذا الكاتب نظريته في محاضرة ألقاها باللغة الفرنسية عام 1921 باتحاد كتاب الأرجنتين أطلق عليها اسم “الإبداع الصافي” وكان يهدف من هذه المحاضرة إلى إيقاظ الذين سكنوا في اللغة الحداثية، ومن خلالها أيضا مارس دور الجسر بين كتاب تلك البلاد، والطليعية الفرنسية، والإسبانية الوليدة في ذلك الوقت، وساعده في دوره هذا اطلاع الكاتب الشاعر الأرجنتيني خورخي لويس بورخيس الذي كان يقيم في ذلك الوقت في مدريد، ومطلِع على الحركة الأدبية الأوروبية بشكل عام، والإسبانية بشكل خاص، وعند عودته إلى بلاده أدخل أيضا التفكير الذي حمله، ونظريات الأدب الجديدة التي ولدت في أوروبا، خاصة أنه كان على علاقة مباشرة بتلك الحركة من خلال التعاون مع العديد من المجلات الأدبية التي كانت منتشرة في ذلك الوقت. وأيضا استطاع أن يكون تأثيره أكبر من خلال إصدار مجلة “بريزما” التي كانت تصدر في الفترة من 1922 إلى 1925.

مرحلة الانفجار

يشير المترجم إلى أن العمل الذي قام به خورخي لويس بورخيس جعل حركة “السريالية” الفرنسية أبطأ في الانتشار في أميركا اللاتينية، ولم تجد لها أصدقاء وتابعين إلا في المكسيك بفضل التصاق الشاعر أوكتافيو باث بهذه الحركة أثناء مشاركته في الحرب الأهلية الإسبانية (1936 – 1939) إضافة إلى فترة إقامة الشاعر الفرنسي أندريه بريتون (1937 – 1938) في المكسيك ونشره لبيانه “من أجل فن ثوري مستقل” الذي وقع عليه أيضا الفنان التشكيلي دييجو ربيرا، ووجود الزعيم الروسي المنفي تروتسكي في المكسيك أيضا.

ووجدت حركة السريالية كذلك لها أنصارا في التشيلي والإكوادور وكولومبيا وبيرو، وفنزويلا بالطبع إضافة إلى المكسيك التي اعتبرت مركزها في أميركا اللاتينية. وإذا كانت الطليعية بدأت مبكرا في الشعر فإنها دخلت إلى الكتابة النثرية من قصة ورواية في مرحلة متأخرة، وحدث هذا بعد الحرب العالمية الأولى.

ويرى بعضهم أن أوروبا تمثل ثقافة من يقتلون أنفسهم، لذلك حاول هؤلاء الكتاب الانكفاء على الذات والابتعاد عن الهمجية التي مثلتها أوروبا في ذلك الوقت في حروبها المتكررة، وظهرت في تلك الفترة كتابات تمثل التحاور مع الذات، والتعامل مع الواقع الإقليمي بعيدًا عن عالمية أوروبا، منها: عام 1922 “قصص ساخرة” للكاتب الفنزويلي خوسيه رفائيل بوكاتيرا، وعام 1924 “انتقام الكوندور” للكاتب البيرواني فينتورا جارثيا كالديرون، وعام 1926 “رجل الجنوب” للتشيلي مانويل روخاس.

ويؤكد شاهين على أهمية الإشارة إلى بعض الكتابات التي ظهرت في الوقت نفسه في منطقة وسط أميركا اللاتينية التي حاولت الكتابة بلغة الحديث العادي وترصيع الإبداع بمكونات طليعية، كما فعل الكاتب السلفادوري سلفادور سالازار في قصصه “المسيح الأسود” الصادر عام 1926، و”قصص من الطين” الصادرة عام 1933، واستخدم البعض الآخر لغة المولدين من أبناء الزواج المختلط الإسباني والمحلي. فيما بين الحربين سيطرت عدة اتجاهات على الكتابة، منها الكتابات التي تقدم على أنها شهادات على حركة المجتمع فتجمع ما بين الكتابة التاريخية، والعاداتية (نسبة إلى العادات والتقاليد) فكانت أبرز هذه الكتابات قصص وروايات هوراسيو كيروجا مثل “صحراء” و”المنفيون”.

الكتابة القصصية الرائعة، والروائية دخلت مرحلة نضوجها مع بدايات القرن العشرين، كنتيجة لانعكاس الأحداث التاريخية

ويتابع “لكن منحنى تطور القصة القصيرة في أميركا اللاتينية يصل إلى أقصى تقدم له خلال فترة الخمسينات من القرن العشرين، حيث نجد أنفسنا في مواجهة فترة يطلق عليها النقاد ‘الفترة المدهشة’، تلك الفترة شهدت تحول العديد من كبار الكتاب في الأنواع الأدبية الأخرى إلى الكتابة في مجال القصة القصيرة، إضافة إلى نوعية هذه الكتابة التي كانت في قمة إبداعها، فقد ظهرت عام 1951 أول مجموعة قصصية متكاملة للكاتب الأوروغواني خوان كارلوس أونيتي بعنوان “حلم متحقق وقصص أخرى”، وقدم الكاتب الأرجنتيني خوليو كورتاثار قصصه ‘بيستياريو’، ثم تبعها المكسيكي خوان خوسيه أريولا، وروا باستوس، ثم قصص الكاتب المكسيكي خوان رولفو، الذي قدم مجموعته الرائعة “السهل يشتعل” وكاولوس فوينتيس المكسيكي أيضا، الذي قدم “الأيام المقنعة”، وجاء الكولومبي غابرييل غارسيا ماركيز ليقدم رؤيته لبلاده من خلال مجموعته القصصية “الوراقة الجافة” الصادرة عام 1955، ثم ماريو بارجاس يوسا بمجموعته “الرؤساء” الصادرة عام 1958 لينهي هذه المجموعة من الكتابات القصصية الكاتب الأرجنتيني خوليو كورتاثار بمجموعة “الأسلحة السرية”.

يرى كل النقاد تقريبا أن هذه الانطلاقة التي شهدتها القصة القصيرة هي التي مهدت الطريق أمام ما أطلقوا عليه في مجال الرواية اسم “البوم أو الانفجار” الذي بدأ خلال الستينات، والتي تعتبر أكثر السنوات إبداعا في مجال الرواية التي انطلقت من منهج ما عُرف باسم “الواقعية السحرية”.

شهدت الفترة التالية ظهور روايات كُتاب تلك الفترة التي صنعت شهرة هذه المنطقة كمنطقة إبداع لا ينفد، بظهور رواية “بدرو بارامو” للمكسيكي خوان رولفو ورواية “عن الأبطال، والقبور” للأرجنتيني إرنستو ساباتو ورواية “عامل الترسانة” للكاتب الأوروغواني خوان كارلوس أونيتي ورواية “الكولونيل لا يجد من يكاتبه” للكاتب الكولومبي غابرييل غارسيا ماركيز، ليؤكد من بعدهم الكاتب المكسيكي كارلوس فوينتيس رسوخ هذه الحركة الروائية الجديدة بروايته “موت أرتيميو كروث” الصادرة عام 1962، إلا أن الروائيين الذين مثلوا حركة الرواية الجديدة في أميركا اللاتينية لم يتخلوا عن الكتابة القصصية، خاصة أنهم بدأوا بها، وبعضهم صنع شهرته على أساس إبداعه فيها، لذلك قدم غابرييل غارسيا ماركيز مجموعات قصصية جديدة خلال تقديمه لإبداعه الروائي، فقدم “جنازة الأم الكبيرة” عام 1962، وقدم كارلوس فوينتيس مجموعته “غناء العميان” عام 1964، ولم تتوقف الكتابة القصصية لكثرة هؤلاء الكتاب، والتي لا تزال تقدم الجديد من الأعمال في هذا الفن الأدبي الجميل.

12