روائية مغربية تطرح قراءة مغايرة للقضية الفلسطينية

بديعة الراضي لـ"العرب": دور المثقفين إشاعة المحبة والأخوة والسلام.
الاثنين 2024/05/13
ساعدني تخصصي الأكاديمي في كتابة روايتي

تبقى القضية الفلسطينية على رأس الاهتمامات الإبداعية العربية وخاصة في مجال الأدب من شعر وحتى سرد روائي، وقد تناولتها الأقلام من جوانب مختلفة، بينما كشفت الأقلام غير الفلسطينية جوانب أخرى من قضية الاحتلال والصراع، و في هذا السياق كان لـ”العرب” حوار مع الروائية المغربية بديعة الراضي حول روايتها الجديدة التي نسجت خيوطها حول القضية الفلسطينية.

الرباط - منذ العصور القديمة، كان الأدب العربي يلعب دورا مهما في تشكيل الوعي والمواقف الاجتماعية والسياسية للشعوب العربية والإسلامية، وفي العصر الحديث، أصبح دور الأدب العربي في دعم القضايا الوطنية وخاصة قضية فلسطين وغيرها من قضايا الاحتلال، له أهمية كبيرة في توجيه الرأي العام وتعزيز الوعي بالظلم والظروف الصعبة التي تواجهها هذه الشعوب.

وتسلط الأعمال الأدبية العربية الحديثة الضوء على القضايا الثقافية والديموغرافية والاجتماعية التي تواجهها فلسطين والمنطقة بشكل عام، ويعمل الكتاب والشعراء والمسرحيون والنقاد على نقل هذه القضايا بشكل مباشر أو غير مباشر، ويروجون لروح المقاومة والصمود من خلال أعمالهم.

تتناول الروائية المغربية بديعة الراضي في روايتها “بيني وبين إستير” القضية الفلسطينية، وتحاول أن تصور الجدل الحاصل منذ الأزمنة الغابرة، بأصوات شخصيات متضاربة، منها من رأت أن الشعب ضحى بالأرض وباع القضية، ومنها من هي مستعدة دوما لتسيل دماؤها فوق تراب وطنها، ومنها من ترى أن الملكية لا تزول بالاحتلال، وأخرى تشجع الحوار والسلمية وتعتبرهما الحل الأنسب لإنهاء القضية.

شخصيات مختلفة

الروائية حاولت أن تكون منطقية بشكل كبير في تعاملها مع موضوع شائك وعريق في التاريخ العربي المعاصر
الروائية حاولت أن تكون منطقية بشكل كبير في تعاملها مع موضوع شائك وعريق في التاريخ العربي المعاصر

في حديثها مع “العرب” حول الدافع وراء اختيارها موضوعا تاريخيا سياسيا معقدا مثل القضية الفلسطينية، تقول بديعة الراضي “يرتبط بطبيعة فهمي للكتابة الروائية، أعتبر نفسي من الكاتبات اللواتي يحاولن البحث عن صياغة جديدة للأسلوب الروائي الذي أراه قريبا من تحويل وعيي العام إلى وعي سردي يجعل القارئ يرى ما أراه من تمثلات حقيقية تكشف عنها الكلمات والجمل والخطاب عامة، فتخرج من القوة إلى الفعل في بناء شامل يحمل كل أوجاع الحياة ليتحول إلى لغة الجمال، لهذا يختلف الأسلوب وتختلف الأفكار كما تختلف كل التمثلات التي يخفيها المثقف وهو يتنقل في مؤسسات بمستويات تأويلية متعددة”.

وتضيف “طبعا الشرط في كل هذه الاختيارات يختلف ويتحرر من الكتابة الكلاسيكية ليتجاوز الأسلوب السائد، لهذا فالرواية في نظري، هي بناء عوالم يؤمن بها الروائي فيحاول ما أمكن أن يبحث لها عن شكل تعبيري ملائم لهذا الاختيار، ولهذا أحاول دائما إعادة النظر في كل القضايا الكبرى التي أعيشها وأراها قابلة أن تكتب في شكل حياة، ربما لأن العالم الروائي يشكل المجال الأقرب إلى تحويل هذه المقاربات التي أعيشها يوميا في كل القطاعات الحياتية، فأحولها إلى بناء شامل، كل واحد يرى نفسه فيها من زاوية نظره، ومن منظور فهمه للأشياء المحيطة به”.

وهذا التصور شكل الإطار العام، الذي من خلاله تفهم الراضي الكتابة الروائية، وهو الفهم الذي جعلها تتخذ من موضوع القضية الفلسطينية أرضية قابلة للتداول في الحقل الروائي بصيغ متعددة، تعبر فيها عن وجهات النظر المتناقضة والمتصارعة، فتستغل الفرصة في ضوء لسان السارد لتمرر ما تراه ملائما للأطروحة الممكنة حاليا في هذا الموضوع المعقد.

تحاول الكاتبة تصحيح المغالطات التي تراها مسؤولة عن ولادة الضياع، كما تراها مناسبة للبحث عن البديل الممكن في هذا الزمن المعقد، الذي لن يلد سوى السراب وإنجاز زمن قد يتضرر منه الجميع في غياب حكمة جماعية تجعل الكل يعيش ما تسميه على لسان السارد “البديل المشترك”.

وتستلهم الرواية موضوعا خاصا يناقش قضية طال فيها الكلام وقيل فيها الكثير، في حين أن مسارها برهن على فشل جل المحاولات، كما فصلناها بشكل مختلف في ضوء خطابات تمثل قوى مختلفة أنتجت موضوعا مبنيا على منطق البناء التناحري مؤسسا على خطابات ذات بعد تضادي يتحرك بشرط البناءات االثنائية المتصارعة.

ونجحت الأديبة المغربية في دمج الهوية والقوة والظلم داخل الحبكة الروائية، حيث عبرت عن هذا بقولها “طبيعة الموضوع تشترط هذا التنوع الثقافي، كما تستحضر أشكال الاختلاف الهوياتي، لهذا توجهت في السرد إلى بناء أنساق معرفية بهويات متعددة كل واحدة ترى نفسها ذات الأطروحة السليمة، مادام التعدد يؤسس قوى متناقضة،  فكل واحدة منها تؤكد سر وجودها في موقع يؤهلها لتأكيد ذاتها، بغض النظر عن وضوحها أو ضبابيتها”.

الحقيقة في الرواية هي حقيقة طرف له الحق في الحفاظ على أسرار الانتماء وطرف ثان يريد إضفاء الشرعية على قرارات ساهم الكل في بلورتها رغم أنها خاطئة وتقود إلى صناعة تاريخ بتدوين مزيف وكاذب.

حضور مميز
حضور مميز

لقد شكلت هذه المحاور، التي يتحكم فيها منطق الاستمرار بشروط مختلفة مجالا خصبا لتأسيس عوالم بوجوه متعددة، كل وجه يريد إبراز الذات من خلال مقولات سردية تعتمد فلسفة الوجود وتستدعي لذلك نصوصا إبداعية في هذا الصدد.

وتتابع الراضي “إن التنوع في ملامح الوجوه هو من ساهم في صناعة الوجود من زوايا تعري متاهة الظالم والمظلوم، وتكشف عن القوي والضعيف، كما رافقت هذه الخصوبة في بناء الحياة في أبعادها المتناقضة ضرورة الكتابة بحبكة روائية، لها مالها من خصوصيات في صياغة هذا الكل المركب لحقيقة معقدة في تاريخ مازال يسيل بكل جراحه وآلامه، ومادام كل واحد يؤمن بالأطروحة التي يؤمن بها ويدافع عنها، رغم إيمانه بصحتها، وآخر يحلم بمستقبل تكتب عوالمه برماد حارق”.

أما عن دور الشخصيات الرئيسية في الرواية، خاصة شخصيتي إستير ودلال؟ وكيف تم سرد تعقيدات وتناقضات شخصيتيهما بشكل واقعي؟

فتجيب الكاتبة “في نظري لا يمكن كتابة رواية من هذا النوع في غياب شخصيات مختلفة في التوجه والشرعية، فهو اختلاف في الرؤى، ويكشف عن طبيعة الصراع المخفي والظاهر في مكان يعرف الكل أعماق الجحيم الذي يعيش فيه هو، وكذلك اختلاف في المقاربات، وفي آخر المطاف هو صراع خفي حول التاريخ نفسه الذي يجمع كائنات لم تلق يوما ما في ملامسة طبيعة الصراع من أجل إيجاد حل نهائي سعيا إلى سلام شامل يصبح فيه الكل ينعم به”.

 يبقى الاختلاف الحقيقي في الواقع عبارة عن آثار لمشهد روائي، تشكل فيه شخصية إستير المقاربة التي تميل إلى قناعات إسرائيل، بينما تشكل فيه شخصية دلال الشخصية النقيض بقناعات فلسطين، فيظل الاختلاف بين الشخوص الأخرى يعطي مجالا مفتوحا لصناعة أفكار تكشف عن الصراع في الأقطاب نفسها متعددا ومتنوعا، والذي من خلاله يتوجه المؤلف الضمني إلى عمق البناء بأسلوب يعتمد على الحكمة والإقناع العقلاني والفلسفي والسياسي  بمقولات سردية أكثر إثارة تتناوب عليها المحاور الصغرى والكبرى في الإبداع والقضية التي شغلت الرأي العام الدولي منذ عقود.

رسالة سلام

مشاركة بارزة

إن البيئة الجغرافية للقصة لعبت دورا مهما في تطور الأحداث، وهذه الاختيارات الجغرافية مقصودة ومدروسة في رواية “بيني وبين إستير” وتشرح بديعة الراضي هذا لـ”العرب” موضحة “يشكل المكان أهم محاور الخطاب في الرواية، وهو معطى طبيعي مادام هو أساس كل الصراعات والاختلافات بين كل المقاربات البشرية والفكرية التي تتناحر من أجل بناء عمل حكائي بأسلوب مختلف عن الحكي المتداول حاليا في الساحة الروائية العربية عامة والمغربية على وجه الخصوص”.

وتضيف “لهذا لا يمكن تغييب عنصر القصدية في اختيار الأمكنة في العمل الروائي المقترح فكل عنصر مكاني له دلالته وقيمته الدلالية ووظيفته المرجعية في بناء تصور شامل لطبيعة الصراع الذي ساهم في بناء الأنساق الدلالية في الرواية ككل”.

 وتكشف الروائية المغربية عن لغة الرواية وأسلوب السرد الذي استخدمته لتعزيز الجوانب الدرامية والتوتر في الحكي قائلة “كما لاحظتم أسلوب الرواية اعتمد على عدة خصائص، مرة يكون أسلوبا تصعيديا خاصة عندما يكون موجها للطرف المحتكر حتى لا يتموقع صاحب الأرض الحقيقي في موقع الطرف الضغيف، إذ إن تبني هذا الأسلوب يدخل في إطار الأسلوب التفاوضي، لأن التفاوض يشترط طرفين في موقع مشابه على مستوى الموقع الحواري، وذلك لكي لا يظل طرفا في وضع ضعيف على حساب الآخر، وهكذا سيكون الحوار غير متكافئ، ومرة أخرى نعتمد على أسلوب الحكامة والعقلنة عندما تقتضي الضرورة ذلك، خاصة في طريقة الإقناع”.

وتضيف “الإقناع كما تعرفون، يستدعي الجدال والحوار الهادئ والمرن بشكل عام والأسلوب يخضع لأشكال الأوضاع، وهو ما نسميه بالمنظورات السردية، وزوايا الرؤية التي تعطي لكل طرف من أطراف الحوار شكله وقيمته ودلالته في الحكي”.

الرواية بناء عوالم يؤمن بها الروائي فيحاول ما أمكن أن يبحث لها عن شكل تعبيري ملائم لهذا الاختيار

ومن خلال تجسيد الشخصيات النسائية في الرواية، تهدف الراضي إلى استكشاف دور المرأة في الصراعات السياسية والاجتماعية حيث تشير إلى ذلك بحديثها “توظيف الشخصيات يرتبط بطبيعة المقام الحكائي الذي يفرض على شخصية الحضور، كما يفرض على شخصية أخرى الغياب، أما توظيف المرأة في الخطاب الروائي، فاشترطته طبيعة السياق الذي يؤطر الرواية ككل”.

في هذا الصدد يمكننا الحديث عن هذا السياق المرجعي في لقاء السارد بكل من دلال الفلسطينية بالأردن، وهي الشخصية المرأة المدافعة في ترافعها عن بلدها فلسطين، في مواجهة إستير المرأة التي تدافع عن إسرائيل في لقاء خاص بمناقشة وثيقة أممية تتعلق بحقوق النساء والإعلام. هذا اللقاء هو الذي اشترط بقوة حضور المرأة كفاعل مهم في كل الأفعال السردية في رواية “بيني وبين إستير”.

وتعاملت الراضي مع تواجد القضية الفلسطينية في الرواية بموضوعية وتجنب الانحياز السياسي، حيث تفيد “حاولت أن أكون منطقية بشكل كبير في تعاملي مع موضوع شائك وعريق في التاريخ العربي المعاصر، تعاملت معه بأسلوب الحكامة التي أجبرتني، بصفتي مثقفة أنتمي إلى زمني، على أن أعطي وجهة نظري التي تفيد الكل، سعيا لسلام عام يستفيد منه الكل، سلام تمهد له لغة العناق والمحبة، لا لغة الطائرات الحربية والمدافع التي تجعل من طبقة تتاجر في الإنسان ضاربة على الحائط الموضوع البشري جانبا، لا يهمها سوى المال والحروب، وساعدني في ذلك تخصصي الأكاديمي كباحثة في علم السرد، أن أترك الشخصيات تحكي وتدافع عن موقفها، وقناعتي بضرورة الإنصات من أجل وجود حلول لأي إشكالية مطروحة”.

وتختم بديعة الراضي كلامها عن أملها بالسلام والتسامح رغم التحديات التي تواجهها المنطقة قائلة “أنا دائما أؤمن بالسلام، فيبقى الأمل معلقا على حكمة الإنسان العاقل الذي يلزمه أن يعيد النظر في فلسفته المذهبية والأخرى البشرية، حتى يتمكن من صياغة عالم آمن ورحيم ومطمئن، أما فكر الدمار فقد ثبت تاريخيا أنه لن يفيد أي أحد في شيء، فيبقى الجميع ضحية هذه الاختيارات غير النبيلة التي تسهم في تدمير الأخضر واليابس، ويبقى دورنا نحن المثقفين هو إشاعة رسائل المحبة والأخوة والسلام في كل خطاباتنا الهادفة نحو إنسان لمستقبل مشرق، كله بهاء وجمال”.

13