رمطان لعمامرة وزير خارجية الجزائر مكلف بإنقاذ سلطة لا يتوافق معها

فاجأ الرئيس الجزائري عبدالمجيد تبّون المتابعين بإعادة الدبلوماسي المخضرم رمطان لعمامرة إلى حقيبة الخارجية بكل ما يحمله الأمر من رسائل ودلالات داخلية وخارجية؛ فعلى الصعيد المحلي يعدّ الرجل ذراع ما يُعرف بـ"الدولة العميقة"، وهو عدو لدود للحراك الشعبي، أما على الصعيد الخارجي فآخر ملف كان مرشحا له هو الأزمة الليبية، حين اقترحه الأمين العام الأممي في 2020 لشغل منصب مبعوثه الخاص، قبل أن يتم إسقاطه بضغط من الولايات المتحدة.
قرار تبّون بتعيين رمطان وزيرا للخارجية في الحكومة الجديدة المنبثقة عن الانتخابات التشريعية التي جرت الشهر الماضي أحدث صدمة لدى مناوئي السلطة في الحراك الشعبي، على خلفية الحملة التي كلّف بها عام 2019 من طرف الرئيس الأسبق عبدالعزيز بوتفليقة، لشرح ما يجري في البلاد وطمأنة شركاء الجزائر بشأن الاحتجاجات الشعبية المفاجئة.
حسم التوازنات
سيكون أكبر حزبين إخوانييْن في الجزائر في حرج شديد بعد عودة رمطان إلى السلطة، فرغم التقارب بين حزبي حركة مجتمع السلم وحركة البناء الوطني وبين السلطة إلا أن مواقف سابقة كانت قد صدرت عن عبدالرزاق مقري وعبدالقادر بن قرينة تجاه وزير الخارجية الجديد، على خلفية اتهامه إسلاميين بالوقوف وراء احتجاجات الحراك الشعبي خلال الزيارات التي قام بها إلى بعض العواصم كموسكو وبكين عام 2019.
وقد وجه الاثنان انتقادات لاذعة للعمامرة، ووصفاه قبل عامين بأبشع الأوصاف، ولمح مقري إلى الخيانة حين تساءل في كلمة مسجلة عن سبب "تحريضه الأجانب على شعبه"، في إشارة إلى الزيارات التي قام بها إلى العواصم المذكورة، ووصفه بن قرينة بأنه "عرّاب المقاربة الفرنسية"، فهو يقوم بتسويق أجندة فرنسا حول الجزائر، وليس بتسويق موقف بلاده، على حد قوله.
مصادر مطلعة تؤكد أن دعوة بوتفليقة للعمامرة إلى جنيف كانت من أجل التفاوض حول إمكانية تعيينه رئيسا للوزراء، خلفا لأحمد أويحيى، حيث كان الرئيس يعتقد أن الاستثمار في شعبية لعمامرة والتضحية بـ"رجل المهام القذرة" سيهدئان من سورة الغضب الشعبي
وبشغله للمرة الثالثة حقيبة الخارجية يكون الدبلوماسي العتيق في مهمة إنقاذ السلطة من انتقادات خارجية حول وضعية حقوق الإنسان في الداخل، وتوسع دائرة القمع والتضييق على الحريات السياسية والإعلامية، كما يكون تمهيدا لتفعيل الدبلوماسية لملفات إقليمية لاسيما تلك المتعلقة بالوضع في الحدود الجنوبية والأزمة الليبية.
في المقابل أوحت عودة الرجل بحسم توازنات داخلية بين أجنحة النظام، فلعمامرة يبقى محسوبا على جيوب المنظومة الاستخباراتية التي حلها الرئيس السابق عام 2015. بوتفليقة لم يكن مطمئنا له على مصير محيطه الحاكم وشبكة علاقاته الخارجية - وقد تجسدت تلك الخشية في إسناد حقيبة الخارجية والشؤون الداخلية والتعاون الدولي إلى لعمامرة، بينما كلف عبدالقادر مساهل بالشؤون الأفريقية والمغرب العربي لمقربه- ورغم مهمته في حكومة أحمد أويحيى قبل عام 2019، استنجد به بعد اندلاع الحراك الشعبي، ليكون مبعوث السلطة إلى عدة عواصم غربية، لطمأنة حكوماتها بشأن الوضع الداخلي في الجزائر وتعليق شماعة الاحتجاجات على الإسلاميين.
لعمامرة يعدّ في الداخل الجزائري ذراع ما يعرف بـ"الدولة العميقة"، وهو عدو لدود للحراك الشعبي، أما خارجيا، فآخر ما رشح له منصب المبعوث الأممي الخاص، قبل أن يتم إسقاطه بضغط أميركي.
وتنتظر منه السلطة إعادة تفعيل الكثير من الملفات الدبلوماسية المشلولة بسبب فشل سلفه في إقناع شركاء الجزائر في الاتحاد الأوروبي بمراجعة الاتفاق الثنائي بينهما، وتثمين علاقاتها الخارجية مع محيطها الأوروبي والعربي والإقليمي، بينما تنتظر لعمامرة عدة ملفات ثقيلة على الصعيدين الدولي والإقليمي، وعلى رأسها إعادة صياغة أهداف الجزائر ونظرتها الجديدة لسياستها الخارجية المبنية على أولوية الأمن القومي ومراعاة مصالحها السياسية والأمنية والاقتصادية، لاسيما وأن البلاد تشترك في نحو ستة آلاف من الحدود البرية تشهد توترات أمنية مستمرة، خاصة في مالي وليبيا، فضلا عن التوتر الدبلوماسي مع الجارة الغربية خلال السنوات الأخيرة.
لكن هل تكفي لعمامرة شخصيته الكاريزمية وشبكة علاقاته الدولية لتوظيفهما في الملفات المذكورة، وفي إعادة بلاده إلى المشهدين الدولي والإقليمي، في ظل هشاشة المقومات الضرورية للدبلوماسية الناجحة، على غرار الوضع الاقتصادي المتدهور والأزمة السياسية الداخلية، وتراجع إمكانيات الإنفاق بسبب شح الموارد المالية للدولة؟
الدبلوماسي المحنك، أو "صوت أفريقيا" كما يوصف، ولد بمنطقة القبائل في شرق العاصمة عام 1952، ووفق تقاليد صناعة خزان رجالات السلطة، تخرّج من المدرسة الوطنية للإدارة بالجزائر العاصمة، ليتقلد بعدها عدة مناصب دبلوماسية في الجزائر والأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي، حيث بدأ مشواره المهني في وزارة الخارجية، ثم ترقّى إلى منصب سفير في عدد من العواصم الأفريقية كإثيوبيا وجيبوتي، وفي نيويورك كسفير لبلاده في واشنطن والأمم المتحدة، ثم عُين أمينا عاما للوزارة من 2005 إلى 2007.
شيفرة الصراعات
في سبتمبر 2013 كلّفه الرئيس بوتفليقة بحقيبة وزارة الخارجية، وفي إطار توازنات داخلية تغير اسم وصلاحيات الوزارة وأصبح لعمامرة وزيرا للدولة ووزيرا للخارجية والتعاون الدولي، لكن اصطدام السلطة آنذاك بثورة شعبية أعاد الرجل إلى الواجهة كعرّاب لها في العواصم المؤثرة، قبل أن يتم الاستغناء عنه ثم العودة إليه مجددا في الحكومة الجديدة.
ويعتبر لعمامرة من بين أبرز الدبلوماسيين في الأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي، لاسيما وأنه متخصص في مجال الوساطة الدولية لحل النزاعات، ففي عام 2003 كُلف بمنصب مبعوث للأمم المتحدة إلى ليبيريا حتى 2007، ليكون وسيطا بين الحكومة وحركة "الليبيريين المتحدة" من أجل المصالحة والديمقراطية، وانتهت الوساطة باتفاق الأطراف المتنازعة على وقف الحرب الأهلية وتسليم السلاح.
ثم عُين مفوضا لمجلس السلم والأمن الأفريقي، وأعيد انتخابه على رأس المجلس، وفي سبتمبر 2017 عينته الأمم المتحدة عضوا في المجلس الاستشاري الأممي رفيع المستوى المختص في الوساطة الدولية والذي يضم 18 شخصية دولية.
انضم لعمامرة إلى مجلس إدارة منظمة "مجموعة الأزمات الدولية"، وهي منظمة غير حكومية مقرها بروكسل، وفي نفس العام كلف بمهمة وساطة أفريقية في الأزمة السياسية بمدغشقر، وهي المهمة التي انتهت باتفاق الحكومة والمعارضة على الذهاب إلى انتخابات رئاسية في البلاد، وهو الاستحقاق الذي رافقه إلى غاية إجرائه.
وفي الشأن الأفريقي كان آخر منصب أفريقي تولاه لعمامرة هو ممثل سام للاتحاد في مبادرة "من أجل إسكات البنادق" بتعيين من قيادة الاتحاد.
لعمامرة لم يكن على وفاق مع سلطة بوتفليقة، لكنه ظل يجزم بأن السلطة هي حديقته؛ ولذلك ساهم بجهوده الدبلوماسية وعلاقاته الدولية رفقة المخضرم الآخر الأخضر الإبراهيمي، في الدفع بالوضع نحو الحلحلة
لم يكن الفارق الزمني بين اندلاع الاحتجاجات السياسية ونقل بوتفليقة للعلاج في سويسرا إلا يوما واحدا، والمؤكد أن الرجل لم يكن يعلم شيئا عما استجد في البلاد، كم لم يكن يدري أن الجماهير التي كانت تصفق له باتت تطالبه الآن بالرحيل.
غير أنه بعد أسبوعين عاد شقيق الرئيس عبدالرحيم بوتفليقة "ناصر" ومعه لعمامرة إلى أرض الوطن وبقي الرئيس في مستشفى بجنيف، وحسب مصادر مطلعة فإن دعوة بوتفليقة لمستشاره الدبلوماسي ووزير الخارجية السابق آنذاك إلى جنيف كانت من أجل التفاوض حول إمكانية تعيينه رئيسا للوزراء، خلفا لأحمد أويحيى، حيث كان الرئيس يعتقد أن الاستثمار في شعبية لعمامرة والتضحية بـ"رجل المهام القذرة" سيهدئان من سورة الغضب الشعبي.
وسقطت حكومة أويحيى، واستقدم خلفه نورالدين بدوي، في خطوة لاحتواء الوضع، ووجد لعمامرة نفسه في مهمة إنقاذ النظام المتهالك من موجة غضب شعبي غير مسبوق، خاصة بعد تعيينه في الـ11 من مارس 2019 نائبا لرئيس الوزراء، على أن يكون ظهوره أكثر وضوحا ودفاعه عن السلطة أشد بروزا.
ساهم وقتذاك في الدفاع بحرجٍ واضح عن النظام المأزوم، إذ أنه لم يكن على وفاقٍ تامٍ معه، على خلفية ورود اسمه وتداوله كبديل محتمل أكثر قبولا لبوتفليقة، وهي الشائعة التي كانت تكبر يوما بعد آخر، وتجابه بصمت المعني بها، دون أن يتكلف عناء التكذيب أو يجني ثمار التأكيد.
لعمامرة لم يكن على وفاق مع سلطة بوتفليقة، لكنه ظل يجزم بأن السلطة هي حديقته، ولذلك ساهم بجهوده الدبلوماسية وعلاقاته الدولية، رفقة المخضرم الآخر الأخضر الإبراهيمي، في الدفع بالوضع إلى الحلحلة؛ فقد تكفل الأول بإقناع العواصم المؤثرة بالطابع العرضي للاحتجاجات وبوقوف الإسلاميين خلفها، وبطمأنتها على مصالحها في الجزائر، بينما تكفل الثاني بالسعي لفتح حوار وعقد ندوة وطنية، غير أن قوة الحراك الشعبي كانت حاسمة، خاصة بعد دخول الجيش على الخط، وأرغم بوتفليقة على الاستقالة في أبريل 2019، وتوارى الدبلوماسيان الإبراهيمي ولعمامرة مذّاك عن الأنظار.
الانحناء أمام العواصف
وحين رشحه الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش لشغل منصب رئيس البعثة الأممية في ليبيا، خلفا لغسان سلامة، وسط تداول العديد من الوجوه الدبلوماسية العربية والإقليمية على غرار وزير الخارجية التونسي خميس الجهيناوي والسوداني يعقوب الحلو، فضلا عن الأميركية ستيفاني ويليامز، جاء الفيتو الأميركي ليحول دون ذلك، تحت تأثير نفوذ قوى إقليمية فاعلة في المشهد الليبي.
واضطر لعمامرة إلى سحب ترشيحه، وذكرت تقارير مختلفة آنذاك أن عواصم أفريقية ضغطت على واشنطن من أجل رفع الفيتو في وجه المهمة، بسبب شكوك حول انحيازه لحكومة فايز السراج.
ويبقى لعمامرة صاحب مقاربة "المسافة الواحدة" بين أطراف الصراع، الذي تبنته الجزائر بشكل واضح خلال حقبة بوتفليقة، رغم عتاب كثيرين حيال ما أسموه بـ"تقصير الجزائر في أداء دور أكثر نجاعة وفاعلية في الأزمة الليبية". لكنّ محللين يرون أن الوضع الداخلي في البلاد أدى إلى انكماش الدور الدبلوماسي الخارجي والإقليمي.
ولأن خبرته تسمح له بالانحناء للعواصف في الوقت المناسب لم يبد الرجل خشونة تجاه الموقف الأميركي، وحافظ على تقاليد الدبلوماسية، كما حافظ عليها عندما تعرض لمخطط الإبعاد من الواجهة وتقليص حضوره من طرف محيط بوتفليقة، والتي تجلت بشكل لافت في تجريده من وعائه ورصيده الأفريقي.
ورغم بروز نوايا النظام في التخلص من لعمامرة إلا أنه يبقى معتمدا على قدره الذي ينقذه في آخر المطاف، وكما تنازل محيط بوتفليقة في آخر أيامه لاحتواء تداعيات انتفاضة الشارع يبدو أن سلطة تبون تراهن مجددا على لعمامرة لتبييض صفحتها من تلميحات هنا وهناك باتت تزعجها كثيرا.