رمضان يمر سلامات وتونس تعتبر من الأزمات

كذب منجمو السياسة والاقتصاد إذن، ولم يعد الناس يصدقون الدعايات المضللة، وتبين بالمكشوف أن القليل من الصبر والتفهم والانضباط يخفف من حدة الأزمة في البلاد إن لم نقل يخرجها منها.
الأربعاء 2023/04/19
المواطن التونسي البسيط أصبح يثمن دور الحكومة في تأمين عيشه

كيف للتونسيين الذين كانوا قد تملكهم الهلع من حروب العراق وسوريا وليبيا، وحتى بلاد بعيدة أخرى، فتهافتوا على المخازن التجارية يشترون ويخزنون كل ما تقع عليه العين من مواد تموينية وغيرها، ألّا يستنفروا حين يتعلق الأمر ببلادهم وهي تقع تحت أزمة اقتصادية زاد من حدتها تهويل الإعلام.

أذكر شخصيا، وأنا الذي يسكن قرب سوق شعبية كبيرة، أنه مع اقتراب شهر رمضان كنت ألمح هستيريا جماعية من البيع والشراء، حتى ليُخيل للمرء أن غدا الطوفان.

بدأ الرعب ينتقل بالعدوى حول فقدان المواد الأساسية، فاشتعلت حمى التسوق واشتعلت معها الأسعار ونشط المحتكرون والمضاربون، ومعهم المواطن الذي تحول إلى محتكر صغير، فبات يشتري أكثر من حاجته عن نصف عام أو أكثر.. ومن ليس بمقدوره يسارع للاستدانة وتدبر أمره بشتى السبل وسط ارتفاع أسعار الفوائد وكثرة المنتفعين.

هذا السلوك الذي لم يعرفه التونسي من قبل، أوجدته وكرّسته جائحة كورونا منذ ثلاثة أعوام، فأمسى تقليدا اجتماعيا لدى كافة التونسيين الذين كانوا لوقت قريب يشترون قوت يومهم في منتهى الأريحية بل كنت أستغرب شخصيا تخزين مجتمعات عربية كثيرة عشت فيها، للمواد التموينية ثم أدركت أن تلك الشعوب لها تاريخ وتقاليد مع “الخوف” والأزمات.

◙ المواطن التونسي البسيط أصبح يثمن دور الحكومة في تأمين عيشه عبر الضرب على أيادي المحتكرين والمضاربين، وكذلك أدرك أن الأزمات لا تنبت وحدها كالفطر

الآن، ومع نهايات شهر الاستهلاك والتشهّي وتعدد الأطباق على مائدة الإفطار الواحدة، تراجعت هستيريا التسوق، وتراجع معها كل شيء: أسعار المواد الاستهلاكية، حمى المضاربات والاحتكارات.. وحتى تراجعت معها حماسة الباعة في المناداة على بضائعهم.

الجميع ينام مطمئنا على قوت يومه وغده بل متخما ومتحسرا على أكوام الطعام التي تلقى في صناديق الفضلات، وكذلك نادما على الجهد الذي بذله في التزاحم على المشتريات.

هي حالة دأب الناس على معايشتها، لكنها ازدادت حدة هذا العام، بسبب كثرة الإشاعات والتقولات والتخوفات التي بثتها أطراف بريئة وأخرى مشبوهة على حد سواء.

الأزمة السياسية لعبت دورها في حركة الترهيب والتخويف بين الرئيس قيس سعيد وخصومه الذين بثوا الذعر في نفوس المواطنين، والإيحاء لهم بأن البلاد على حافة الهاوية بل ولعب بارونات المال منهم دورا في هذا المجال كما تبين من محاضر تحقيق ميدانية سُجلت في هذا الشأن.

وما زاد في تأزيم الوضع أيضا هو الواقع الاقتصادي الناجم عن عوامل طبيعية وبيئية كشح الأمطار، وكذلك مؤثرات اقتصادية دولية ليست تونس في منأى عنها.

أما الجانب البسيكوسوسيولوجي ففي عهدة المتخصصين الذين يفاجئوننا في كل مرة بعقد وأمراض نفسية تتهدد المجتمع الذي يزداد فيه الفرد غربة وانعزالا وعدائية نتيجة تحولات دراماتيكية هائلة.

وهنا ينبغي أن نقف على حقيقة تسجل لصالح الحكومة في لجم الأسعار وتحديد سقفها بالنسبة إلى الخضروات والفواكه واللحوم والوقود، وذلك وفق رقابة صارمة وتحت طائلة مسؤولية جزائية رادعة ارتاح لها الناس، وأكسبتهم ثقة في القضاء والقانون وحضور الدولة.

وبالتدريج، أصبح المواطن التونسي البسيط يثمن دور الحكومة في تأمين عيشه عبر الضرب على أيادي المحتكرين والمضاربين، وكذلك أدرك أن الأزمات لا تنبت وحدها كالفطر بل لها جذور ضاربة في عمق سنوات مضت، حين كان الفساد ينخر جسم الدولة والمجتمع، ويهيئ لما يعيشه المواطن اليوم من ضيق الحال.

◙ الأزمة السياسية لعبت دورها في حركة الترهيب والتخويف بين الرئيس قيس سعيد وخصومه الذين بثوا الذعر في نفوس المواطنين، والإيحاء لهم بأن البلاد على حافة الهاوية

لم يعد الناس يصدقون الدعايات المضللة التي تحاول حركة النهضة وحلفاؤها تمريرها ضد الحكومة بقصد التأليب والاستثمار السياسي في الأزمات الاقتصادية، وإنما ازداد التعاطف والتعاون الفعلي مع الدولة كما لم يكن في ماضي تونس أبدا.

كذب منجمو السياسة والاقتصاد إذن، وتبين بالمكشوف أن قليلا من الصبر والتفهم والانضباط يخفف من حدة الأزمة في البلاد، إن لم نقل يخرجها منها.

اتجهت الأنظار في الأيام الأخيرة نحو مستلزمات العيد من حلويات وثياب للأطفال، لكن هستيريا التزاحم بدت قليلة مقارنة بأول رمضان. ويبدو أن المواطن قد تعلم واستفاد من الدرس بشكل جزئي، ذلك أنه “يجب الذي يجب” بالنسبة إلى التونسي الذي اعتاد الاحتفاليات في تقاليده وموروثه الشعبي.

ما استنتجته شخصيا، وبحكم معايشتي لبلدان عربية كثيرة، أن المواطن التونسي يصرف على رفاهيته أكثر بكثير من إمكانياته. ومن يتجول في الأسواق والمولات التجارية، يحسب أنه في بلد فاحش الثراء، وذلك من خلال معروضات تبدو ضربا من الرفاهية في بلد عربي آخر على الأقل.

ثمة ثقافة غذائية وتقاليد احتفالية أظنها اليوم في طريقها إلى الانقراض بحكم الحاجة وتحت ضغط الضائقة الاقتصادية، إذ لا مجال للحديث مثلا عن طبق بقلاوة في العيد يكلف المواطن راتبه الشهري، ومع ذلك يفعلها بعضهم ويضحي.. كيف؟ لست أدري.. الجواب، كما المسؤولية التي تتقاسمها الحكومة والتقاليد من جهة، والمواطن من جهة أخرى وهو الذي كان في الأمس يتسوق مغمض العينين، مرددا ما غنته أم كلثوم من شعر عمر الخيام “غَدٌ بِظَهْرِ الغيب واليومُ لي، وكمْ يَخيبُ الظَنُ في المُقْبِلِ”.

9