رقابة شعبية على الدراما في مصر تفوق محظورات المصنفات الفنية

صارت الأعمال الدرامية المصرية مؤخرا تواجه رقابة رسمية وحتى شعبية، لكنها رقابة تتجاوز الجانب الفني لتصدر أحكامها حول ما يسمح وما لا يمسح تقديمه للمجتمع متجاهلة الرأي المخالف وأن عددا كبيرا من الأعمال المنتجة تعالج قضايا اجتماعية واقعية ومن شأن التوعية بها أن تسهم في تثقيف المجتمع.
القاهرة - تعددت طلبات الإحاطة والأسئلة المقدمة من جانب عدد من النواب في البرلمان بشأن بعض الأعمال الدرامية المعروضة حاليًا أو تلك التي يتم تصويرها استعدادا لعرضها في موسم رمضان المقبل بذريعة تعرضها سلبَا لمنظومة القيم لفئات ومهن، وأماكن تدور فيها أحداثها، ما دفع للتفكير في استحداث رقابة شعبية على أعمال فنية ربما تفوق محظورات عديدة تفرضها هيئة المصنفات الفنية المسؤولة عن الرقابة، وكانت سببًا في عدم خروج بعض الإبداعات الفنية إلى النور.
يواجه مسلسل “بالطو” المعروض حاليا على منصة “واتش ات” المصرية انتقادات وجهها أطباء وأهالي أحد مراكز محافظة كفر الشيخ (شمال القاهرة)، واعتراضا من أعضاء في مجلس النواب عن المحافظة طالبوا بوقف عرضه بعد بث بضع حلقات على المنصة الرقمية الأيام الماضية من دون انتظار عرضه كاملا.
وأعلن عدد من المحامين بمدينة مطوبس التابعة لمحافظة كفر الشيخ وتدور فيها قصة المسلسل المأخوذ عن رواية “بالطو وفانلة وتاب” تأليف أحمد عاطف فياض، نيتهم رفع دعاوى قضائية على منتجي العمل لما يحويه من دراما لا تمت للواقع الحقيقي بصلة، على حد قولهم، ومن وجهة نظرهم أن المسلسل يقدم معاني تنطوي على سخرية من وضع المدينة والوحدة الصحية (مستشفى صغير) بها.
وتقدم النائب بمجلس النواب المصري محمد سعد الصمودي بطلب إحاطة إلى رئيس مجلس الوزراء ووزيري الصحة والثقافة لوقف عرض مسلسل “بالطو” بحجة إساءته لمهنة التمريض وللمدينة التي تدور فيها الأحداث وبرر موقفه برفض الأهالي الذين يمثلهم في البرلمان ما جاء في العمل الدرامي.
واضطر أحمد عاطف الذي شارك في كتابة سيناريو وحوار المسلسل وألف رواية عبارة عن يوميات دونها خلال عمله كطبيب في إحدى الوحدات الصحية لنفي تهمة تعمد الإساءة إلى أي شخص، والقول إن أحداث العمل تدور في قرية وهمية من خياله.
وتدور قصة المسلسل في إطار كوميدي حول مهنة التمريض وما يحدث في دور الرعاية الصحية في بعض الأقاليم المصرية عبر طبيب حديث التخرج يذهب لقضاء فترة تدريب على مهنة الطب في إحدى قرى محافظة كفر الشيخ، ورغم رفضه للسفر وتقديم تظلم لعودته إلى القاهرة، إلا أن المشرف على الوحدة الصحية المكلف فيها بالتدريب يتوفى، ويُجبر المتدرب على إدارة الوحدة الصحية رغم جهله بالقوانين والتعليمات الحكومية.
ويشارك في بطولة العمل الذي يتكون من عشر حلقات الفنان الشاب عصام عمر، ومحمد محمود، وعارفة عبدالرسول، ومحمود حافظ، ومحمود البزاوي، وعدد من ضيوف الشرف أبرزهم خالد الصاوي، وسلوى خطاب، وقصة وسيناريو وحوار أحمد عاطف، وهو من إخراج عمر المهندس وهو حفيد الفنان الراحل فؤاد المهندس.
يتفق العديد من النقاد على أن هناك مجموعة من العوامل قادت إلى الوضعية الراهنة، وأن ضيق أفق الأعمال الفنية واقتصارها فترات طويلة على قضايا ثانوية لا تعبر عن الواقع الملموس يدفعان لارتفاع أصوات المنع والحظر كلما جرى تقديم عمل يكون بمثابة صدمة ثقافية للمتلقين، كما أن إطلاق العنان لانتقاد أعمال بحجة نشر البلطجة والعنف فتح الشهية لتكرار الأمر مع كل عمل يُظهر عورات المجتمع.
يصعب الفصل بين الحالة الراهنة وبين خطوات رسمية أقدمت عليها جهات حكومية مؤخرا تمثلت في إقدام المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام على إنشاء لجان متخصصة لمتابعة الأعمال وإعداد تقارير عن القيم التي تقدم خلالها، وبدا الأمر معبرا عن اتجاه رسمي يسمح بدخول عدد من نواب البرلمان القريبين من الحكومة على خط أي عمل درامي يدور في سياق مغاير لما هو سائد من أعمال فنية.
وتسبب عدم وجود فصل بين الأعمال الإبداعية التي يمكنها تخيل الزمان والمكان والشخصيات التي تحاكي القضايا المطروحة فيها، وبين جهات نقابية وهيئات شبه حكومية لها تدخلات ومواقف مما يتم عرضه من مسلسلات وأفلام، في هذا اللغط الشعبي الجديد، ودائما ما تكون نقابات الأطباء والصيادلة والمحامين طرفًا في مطالبات وقف العرض، بالإضافة إلى جهات أخرى مثل المركز القومي للمرأة ومركز مكافحة الإدمان، وهم يتبنون آراء تتداخل فيها القيم الاعتبارية مع الإبداعية للعمل وتضع الفنانين في مواجهة انتقادات اجتماعية متكررة تؤدي إلى ضجيج ممتد.
وقالت الناقدة الفنية صفاء الليثي لـ”العرب” إن اهتمام بعض أعضاء البرلمان بما يتم عرضه من أعمال فنية أمر مثير للاستغراب وسط المشكلات الاقتصادية والاجتماعية العديدة التي يجب أن تحظى باهتمامهم بصفتهم الرقابية على الحكومة.
وأضافت أن الفن لديه قضاته الذين يقيمون ما إذا كانت الأعمال تنتقص من قدر المجتمع من عدمه، وهناك أسس وقواعد تدرس في الأكاديميات يمكن من خلالها تقييم الأعمال، فضلا عما تحتويه قوانين المصنفات الفنية التي تقوم بأدوارها.
وأكدت أن المحامين ونواب البرلمان لا يدركون قيمة “التطهر من المشكلات الاجتماعية” وتقديم الأزمات التي يمر بها المواطنون يوميًا على الشاشة وتعريفهم بأنهم يمرون بأزمات ليست شخصية يمكن التعامل معها بأدوات وأشكال مختلفة، وتطرق بعض الأعمال لتلك المشكلات يبرهن على أنها تسير في الطريق الصحيح وينعكس ذلك على حالة التطور الملحوظ في مستوى الشكل والموضوعات المثارة.
ويعتبر بعض النقاد أن تفرغ جهات ليس لها علاقة للفن بما يتم تقديمه من أعمال هو تهرب من مسؤولياتهم الحقيقية، ويشي بأنهم يمارسون قدرا من الاستعلاء الاجتماعي بزعم أنهم حماة من الفن الهابط، دون أن يطلب أحد منهم القيام بهذا الدور.
وما يثير غضب بعض المواطنين قد لا يضر بآخرين يرون أن المسلسلات والأفلام تقدم قيما فنية مطلوبة لإثراء العقل والذهن في المجتمع المصري، وأن دفن الرؤوس في الرمال لا يمكن أن يقود إلى تقدم المجتمع، ومن المهم أن تزدهر الفنون بوجه عام.
وثمة مخاوف كبيرة من أن تؤدي تلك الهجمة إلى ردة فعل ترجح كفة الأعمال السطحية التي تغلب عليها الكوميديا بلا غوص في أزمات المجتمع، في ظل عدم إبراز الأدوار المهمة للأعمال الفنية، ومع طغيان ثقافة يغلب عليها التشدد أحيانا في التعامل مع أي محتويات لا تتماشى مع العادات والتقاليد المجتمعية تبدو المسألة أكثر صعوبة.
وتكررت مشكلات دخول نواب ومحامين للمطالبة بوقف عرض أعمال فنية مؤخراً، وكان لمسلسل “أزمة منتصف العمر” الذي انتهى عرضه قبل أيام على منصة “شاهد” السعودية النصيب الأكبر من الانتقادات طيلة فترة عرض حلقاته بعد أن سلط الضوء على علاقة حب محرمة تجمع بطل العمل كريم فهمي ووالدة زوجته (رنا رئيس) والتي جسدت دورها ريهام عبدالغفور، وأثير ملف زنا المحارم قبل أن يظهر العمل الفني أنها ليست والدة زوجته الحقيقية.
ودخل عدد من شيوخ الأزهر على خط الأزمة وطالبوا منتجي الدراما بالحذر في تناول العلاقات المحرّمة والمجرّمة، لأن لها تأثيرا في إشاعتها وشددوا على وجوب رفض الأعمال الدرامية للعلاقات المخالفة للفطرة وتهدم الأسرة والمجتمع.
وتقدمت عضو مجلس النواب عن محافظة دمياط (شمال القاهرة) رحاب موسى بطلب إحاطة إلى رئيس المجلس حنفي جبالي بسبب مسلسل “تحت الوصاية” المقرر عرضه في موسم رمضان المقبل، بطولة الفنانة منى زكي، وناشدت بضرورة وقف تصويره بعد أن زعم أهالي منطقة معينة في مصر أن الشخصية التي تقدمها زكي تُسيء إليهم، والقصة بشكل عام لا تمثل عاداتهم من قريب أو بعيد.
وأثارت قصة المسلسل جدلا مع الإفصاح عنها، إذ تستوحي قصة بطلة العمل من سيدة مكافحة في صعيد مصر تُدعى “الحاجة صيصة”، الأمر الذي أغضب المرأة كونها فوجئت بالأمر ولم يتواصل معها أحد من أسرة العمل قبل الشروع في التنفيذ، وطالبت بالحصول على تعويض مادي باهظ.
وأشار الناقد الفني الأمير أباظة إلى أن الاعتراض الشعبي على بعض الأعمال الإبداعية وحالة الذعر التي تظهر مع تقديم أي أعمال تناقش قضايا اجتماعية لا مثيل لها، وأن الأعمال التي تم تقديمها في خمسينات وستينات القرن الماضي كانت أكثر جرأة وأهمية مما يتم عرضه الآن، ومن المنطقي أن تحدث تطورات على مستوى الموضوعات بما يساير التقدم التقني الحالي، لكن ذلك لم يحدث في مصر.
وأوضح في تصريح لـ"العرب" أن بعض المسلسلات والأفلام المصرية تخضع للعديد من المحاذير، وهناك رقابة غير منطقية على موضوعات لا تستحق التوقف عندها، والأمر لا يخضع لتوجهات سياسية لكن له علاقة بثقافة المجتمع وطبيعة التعليم الذي يحظى به المواطنون، وأن تقدم الفنون سابقا كان مرتبطا بجودة ونوعية التعليم، غير أنه مع تراجع الاهتمام بالثقافة بوجه عام بدأت تظهر مثل هذه الوقائع.