رفض التصالح في قضايا العنف الأسري رسالة ردع مصرية ضد تربية الآباء القاسية

التعامل بمنطق ملكية الآباء للأبناء يصعب تغييره دون توعية بطرق التربية الصحيحة.
الاثنين 2022/07/18
العنف ضد الأطفال يصل إلى حد الإيذاء الجسدي

يواجه المجتمع الأسري ظاهرة تعنيف الأطفال من طرف أهلهم وذويهم لاعتقادهم أن ذلك يحسن من سلوكياتهم، وترفض النيابة العمومية التصالح في قضايا التعنيف الأسري حتى لا تنتشر ثقافة التربية القائمة على العنف، حيث أن تنازل الضحية عن حقها لا يُسقط حق المجتمع نفسه.

القاهرة - لم يعد أمام الجهات القضائية في مصر إلا رفض التصالح في قضايا العنف الأسري كمدخل لتوجيه رسائل ردع للعائلات التي أصبحت تدمن التربية القاسية بعدما انتشرت وقائع ضرب وتعذيب من الآباء تجاه الأبناء بذريعة تقويم سلوكياتهم، ويحدث أحيانا بطريقة وحشية، وحظي الإجراء العقابي بتأييد منظمات حقوقية.

وأعلنت النيابة العامة في مصر السبت رفض التصالح في واقعة تعذيب ضحيتها طفلة الإسماعيلية (محافظة بإقليم قناة السويس) لم تتجاوز السابعة عشرة من عمرها بعدما قام أقاربها بتكبيل يديها وقدميها بسلاسل حديدية والاعتداء عليها جسديا بحجة تكرار هروبها من منزل الأسرة وتقرر حبسهم، وعلى الرغم من أن الطفلة طلبت التصالح مع المتهمين، إلا أن النيابة تمسكت بموقفها.

وقالت النيابة إن قضايا التعنيف الأسري بحق الأبناء لا يجوز التصالح فيها لما يشكله ذلك من خطورة على الأطفال لكي لا تنتشر ثقافة التربية القائمة على العنف، إضافة إلى أن المجتمع نفسه له حق عند المتهمين بأنهم يمارسون أساليب غير إنسانية في تقويم السلوك، وبالتالي فتنازل الضحية عن حقها لا يُسقط حق المجتمع نفسه.

القوانين المصرية تضم نصوصا تستهدف حماية الصغار عند تعرضهم للخطر، لكنها تففتقد لآليات تطبيق

وكشفت جهات التحقيق أن الطفلة ضحية التعذيب كانت تهرب من منزل الأسرة لتعرضها لأذى نفسي وجسدي متكرر، أي عوقبت لهروبها من العذاب الذي كانت تعيش فيه، ولو كانت وجدت بيئة أسرية سوية ما اضطرت لترك منزل العائلة، لذلك قرر النائب العام إيداعها إحدى دور الرعاية ومنع أسرتها من استلامها إلى حين علاجها.

ويواجه المتهمون بتعذيب الطفلة عقوبة الحبس لمدة تصل إلى ثلاث سنوات، حيث كان مجلس النواب المصري وافق العام الماضي على تعديلات تشريعية بغرض وقف العنف الأسري تجاه الأطفال بعد أن تحول الإيذاء البدني والنفسي الذي يصل أحيانا إلى القتل إلى ظاهرة وتزايد عدد صغار السن الذين يواجهون العنف الجسدي.

وتضم القوانين المصرية العديد من النصوص التشريعية التي تستهدف حماية الصغار بمجرد تعرضهم للخطر، لكن تظل المعضلة الحقيقية في آليات تطبيقها، وتفعيل العقوبات الرادعة ضد أرباب الأسر الذين يرتكبون جرائم بحق أولادهم، كما أن هناك العديد من وقائع التعذيب يتم الكشف عنها بالصدفة، مثل واقعة الطفلة المعذبة مؤخرا.

وتبين أن الطفلة تعرضت للتعذيب المستمر من جانب أفراد داخل أسرتها منذ عام، وتم نشر فيديو يوثق تعذيبها في الأيام الماضية على منصات التواصل الاجتماعي بعدما حاول أحد المتورطين في الواقعة الثأر من الآخرين فقام بنشر الفيديو لخلافات شخصية بينهم، أيّ أن الطفلة لم تنجح في الإبلاغ عن الواقعة من تلقاء نفسها.

ويرى متخصصون في العلاقات الأسرية أن استمرار الكشف عن وقائع تعذيب الأطفال بالمصادفة أو بعد تعرض الضحية للضرب الذي قد يسبب لها عاهات أو يقودها إلى الوفاة يعني أن الكثير من الصغار الذين يتعرضون للعنف الأسري لا تتوافر لهم الحماية الكاملة ولو تعرضوا لتصرفات مشابهة، من ثم فالعقوبات القاسية لا تحل الأزمة.

وثمة معضلة أخرى مرتبطة بالقوانين التي تمنح أرباب الأسر الحق في تأديب أولادهم وتحدد لذلك ضوابط، لكن المشكلة مرتبطة بطبيعة فهم الآباء والأمهات للحد الأقصى من هذه الضوابط، فبينهم من يضرب ويؤذي ويعذب باعتبار أن ذلك حق كفله القانون في التربية وتقويم السلوك ويتعاملون مع مثل هذه التصرفات بأنها حق مكتسب لهم.

ونادرا ما تتسبب حوادث العنف الأسري ضد الأطفال في محاسبة أرباب الأسر في مصر ومساءلتهم قانونيا إلا إذا تم افتضاح أمر التعذيب الوحشي وتم تصوير الواقعة ونشرها عبر وسائل الإعلام ومنصات التواصل، أو تعرض الطفل للقتل على يد والديه وصارت هذه الجرائم موجودة بشكل يؤدي فيه التعذيب بدافع التأديب إلى الموت.

العنف الأسري ضد الأطفال ظاهرة متفشية في المجتمع المصري
العنف الأسري ضد الأطفال ظاهرة متفشية في المجتمع المصري

وما يلفت الانتباه أن واقعة رفض النيابة العامة تصالح الطفلة مع المتورطين في تعذيبها من جانب أسرتها أظهرت حجم القسوة الأبوية في التربية بعدما كشفت عن شريحة من الآباء والأمهات يدمنون العقاب ضد أولادهم بأساليب وحشية لمجرد أنهم أخطأوا، حيث عبر هؤلاء عن رفضهم لتصرف النيابة وطالبوها بالإفراج عن المتهمين طالما تصالحت الطفلة.

وتتحجج الأصوات الرافضة لمحاسبة الأب أو الأم على تعنيفهما لأبنائهما بأن الآباء من حقهم معاقبة الأبناء على سوء سلوكياتهم ويختارون الوسيلة الأنسب في التأديب، وحتى لو تدخلت الدولة لحماية الأطفال فحالة الرفض الأسري للعقوبة تعكس أنه من الصعب حماية الصغار من التعذيب بالقانون فقط، طالما يوجد من يبررون ويطبقون العنف بعيدا عن أعين السلطات.

وقال محمد هاني الاستشاري النفسي والمتخصص في العلاقات الأسرية بالقاهرة إن أزمة العنف الأسري مرتبطة بعقلية بعض أرباب الأسر الذين يدمنون العقاب القاسي ضد أولادهم ويتعاملون مع ذلك باعتبار أن الصغار ملكية خاصة للآباء، وهذه مفاهيم يصعب ردعها والتخلص منها بنصوص قانونية، فالأهم نسف الموروثات من العقول.

نادرا ما تتسبب حوادث العنف الأسري ضد الأطفال في محاسبة أرباب الأسر في مصر ومساءلتهم قانونيا إلا إذا تم افتضاح أمر التعذيب الوحشي وتم تصوير الواقعة ونشرها عبر وسائل الإعلام ومنصات التواصل

وأضاف لـ”العرب” أن منع التصالح في قضايا العنف الأسري مطلوب، لأنه من المؤكد أن ضغوطا وقعت على الطفل ليتنازل عن معاقبة المتورطين في تعذيبه من أفراد أسرته، لافتا إلى أن الأخطر من الوقائع المعلنة التصرفات الأسرية التي تحدث في الخفاء ولا يتم اكتشافها من وقائع ترهيب واعتداء جسدي على الصغار دون محاسبتهم.

ومن غير المتوقع أن تقود العقوبات الغليظة ضد الآباء المعتدين على أولادهم إلى تغيير ثقافة التربية القائمة على العنف والأذى إذا استمر الكثير من الآباء في التعامل مع أبنائهم بمنطق الملكية الخاصة ومنح أنفسهم الحق المطلق في التأديب وتقويم السلوك بأي طريقة، وليس لجهة أخرى التدخل حتى لو تسبب ذلك في عاهات مستديمة.

ومن الصعب تغيير التعامل بمنطق ملكية الآباء للأبناء قبل إقرار استراتيجية متكاملة تستهدف تأهيل الأسر وتوعيتها بطرق التربية الصحيحة عبر الإعلام والأعمال الفنية والمناهج الدراسية، لتغيير عقول الشباب والفتيات كأرباب الأسر مستقبلا.

ولن يجدي التعويل على العقوبات وحدها ولو وصلت إلى الحبس بسبب ضرب طفل، لأن الأمر مرتبط بسلوكيات وقناعات متوارثة، فالقوانين وحدها لا تغير ثقافات الشعوب، بدليل وجود تشريعات صارمة لمحاربة الزواج المبكر وختان الإناث ولم يتم القضاء عليهما.

ويتعاظم الخطر عندما يرث الصغار نفس الفكر والثقافة، فالطفل الذي يتربى على العنف يرث الثقافة ذاتها عندما يصبح أبا، والآباء المتورطون في جرائم عنف بحق أولادهم تعرضوا غالبا في الصغر لنفس الأسلوب عند التربية، لكنهم يردون لأنفسهم الاعتبار في الكبر، أي أنها دائرة مطلوب نسفها من الجذور.

17