رعد خلف يكتب حكايته عن دمشق موسيقيّا

عصرنة الموسيقى أمر بالغ الصعوبة والتعقيد لأنه يعتمد في حيّز منه على ضرورة وجود مستويات عليا من الثقافة العلمية الأكاديمية إلى جانب الخبرة العملية في التعامل مع مستحدثات العصر في أساليب إنتاج الموسيقى الإلكترونية. وفي العالم تجارب موسيقية عالمية أوجدت لنفسها مزاجا موسيقيا مرغوبا فيه لدى شرائح عريضة من الجماهير منها تجربتَا ياني وفانغاليس، وفي العالم العربي تجارب موازية تضع لنفسها خطا خاصا يميّزها، منها تجربة رعد خلف الذي خطا خطوات في مسار إنتاج موسيقى عربية بملامح عالمية.
دمشق - في حضور موسيقي خاص قدّمته أوركسترا ماري للفتيات بدمشق على مسرح دار الأسد للثقافة والفنون (أوبرا دمشق) عاش الجمهور السوري تجربة فنية جديدة تمازجت فيها عناصر الفن والتكنولوجيا لتقدّم للجمهور أمسية موسيقية نادرة من خلال عرض “مدينتي”.
وهو عرض موسيقي عصري ينتمي إلى الموسيقى الحديثة التي تجمع بين الكلاسيكية من حيث الجوهر في بنية التأليف الموسيقي وآخر ما تقدّمه لغة العصر من مستحدثات تقنية في جانب آخر.
مدينة معاصرة
“مدينتي” مشروع موسيقي قدّمه الموسيقار والمايسترو العراقي رعد خلف في تجربة جديدة له تُضاف إلى مسيرته الفنية التي تميزت دائما بتقديم الجديد والعميق. وكعادته يقدّم خلف في عروضه الموسيقية برامج فنية مختلفة، فزمنه الإبداعي يمتدّ عبر أزمان بعيدة، تبدأ مع أول نوتة موسيقية عرفها التاريخ في عهد دولة أوغاريت قبل آلاف السنين حتى عصرنا الحالي.
ولم يذهب الموسيقار العراقي في تجربته الأحدث نحو الماضي، بل عايش اللحظة الراهنة التي تحياها مدينة دمشق، ورسم من خلالها أبجدية موسيقية تحاكي مشاعر الناس الذين يعيشون فيها وقد مرّت عليهم سنوات حرب قاسية، فحكى عن أناس يتحرّكون في مواصلاتها العامة من خلال معزوفة “سرفيس البلد” التي كانت حيوية وديناميكية شدّت الجمهور منذ اللحظات الأولى من الحفل وحفلت بتكنيك موسيقي عال، نظرا إلى الحركة السريعة والحيوية التي كانت عليها.
وعلى العكس قدّمت أوركسترا ماري للفتيات في ظهورها الثاني بالحفل مادة موسيقية هادئة رصينة عبر أغنية بعنوان “بلحظة” ألفتها حلا الجابر وغناها روجيه اللحام، وعَوْدا إلى الموسيقى قدّمت الأوركسترا ثالثة معزوفاتها وكانت بعنوان “سهرة شباب”، وبعدها قدّمت مجدّدا أغنية بعنوان “لا تروح” لحلا الجابر وروجيه اللحام وقد رافقتها على خشبة المسرح رقصة باليه قدّمتها الشابة لجين ملاك.

رعد خلف: العرض يرصد حياة الناس في الحرب، ماذا شاهدوا وماذا سمعوا؟
إثر ذلك قدّمت معزوفة بعنوان “بيت عربي”، ثم كانت المحطة التالية التي حملت عنوان ثلاثية الحرب “جريح وطن” و”معركة” و”أطفال” التي استعرضت فيها الكاتبة الشابة لوتس مسعود مونولوغا مسرحيا من تأليفها وأدائها على خلفية عزف الأوركسترا.
وبعدها قدّمت معزوفة “سوق الخضرة”، ثم قدّمت أغنية في شكل لوحة كوميدية ناقدة بعنوان “قلي دخلك قلي” أدّتها مجموعة من شباب المعهد العالي للموسيقى في دمشق بشكل تمثيلي وغنائي لطيف، وكان الختام مجدّدا بالشكل الحيوي عبر مقطوعة “نشيد ورقصة”.
وقدّم العرض في حفلين متتاليين وشارك فيه كل من رعد خلف مؤلفا موسيقيا وقائدا للأوركسترا وإبراهيم الخياط في الإخراج السينمائي، وفي منصة الضيوف على العرض حضرت الشاعرة حلا الجابر والكاتبة لوتس مسعود والمغني روجيه اللحام وراقصة الباليه عبير ملاك وعازفا الإيقاع جوليان خوري وشفيق ياغي والمغنيان مجدي أبوعصفور وفادي زرقا.
ويرى خلف أن باستطاعة الموسيقى أن تكتب رواية عن مدينة من خلال النغمات التي تضعها في حالة معينة للوصول إلى المعنى، ويقول عن ذلك لـ”العرب” إن “عرض ‘مدينتي’ مشروع يتمّم بقية المشاريع التي كانت في هذا السياق، وهي التي تسمى عالميا بالموسيقى المبرمجة، وهي موسيقى تحمل طابعا دراميا ، فالموسيقى المبرمجة هي عنوان عريض يمكن للموسيقي من خلاله أن يغوص ويتحرّك في تفاصيل كثيرة. وفي أوركسترا ماري سعينا لأن يكون لدينا شكل ومضمون مختلفيْن، فأوركسترا ماري بخصوصيتها التي جاءت من كون كل أعضائها من الفتيات أوجدت الشكل المختلف، أما على مستوى المضمون وباعتباري من سيقدّم ذلك كوني مؤلف الأعمال فقد عزمت على أن أقدّم شيئا يتماهى مع الموسيقى المبرمجة، فتوجهت لابتكار شيء يأتلف مع مشروعاتنا السابقة منها ‘روح الفرح’ و’قهوة’ و’حب ونساء'”.
و”مدينتي” هو أحد هذه المشاريع التي يعمل عليها خلف في هذا الاتجاه، ويضيف “هو محاولة شبابية ترمز إلى المدينة التي نعيش فيها، كما يمكن أن يرمز إلى أي مدينة في العالم من خلال تغيير الصور المرافقة. ‘مدينتي’ عمل يرصد كيف عاش الناس في دمشق خلال سنوات الحرب حياة كاملة لم تتوقف، فهناك أناس يحبون وآخرون يكرهون والبعض يذهب في رحلات وأطفال لا يبالون بشيء يلعبون الكرة في شوارعهم. من هذه البانوراما كانت تفاصيل الحكاية. فهنالك سرفيس البلد وسوق الخضرة والبيت العربي وقلي دخلك قلي. فالمقصود هو الحياة العامة للناس في هذه المدينة، ماذا شاهدوا وماذا سمعوا؟ الفكرة هي رصد حياة هؤلاء بكل تفاصيلها، هي تصوير أشخاص في بعد نغمي نستطيع من خلاله رواية أحداث حقيقية من خلال النغمات”.
وحضرت الصورة في الحفل بشكل فاعل، وكانت من التجديدات التي يعمل عليها عادة خلف في حفلاته. فقدّمت في الحفل مجموعة من المواد السينمائية التي كانت تعرض أثناء عزف المقطوعات، وعن ذلك يقول خلف “الصور التي كانت تقدّم في خلفية العرض هي عنوان للمعزوفة التي نقدّمها والتي تمّ تصويرها بعد الانتهاء من تأليف الموسيقى وليس قبلها، وما قدّم ليس موسيقى تصويرية لتلك المشاهد بل إن المسألة هنا تمت بالعكس. هذه الصور جاءت متمّمة للعمل الموسيقي السمعي الذي قدّمناه في عملنا”.
وقُدّم الحفل بتقنية موسيقية جديدة، تعتمد على الدمج بين موسيقى حية وموسيقى مسجلة. ويقول خلف “استخدمنا في العرض طرحا موسيقيا جديدا يقدّم حاليا في كبرى مسارح العالم عبر موسيقيين كبار مثل ياني وفانغاليس، وهو المزج بين الموسيقى المسجلة والموسيقى الحية التي تأخذ مكانها من العرض. وهو أسلوب يختلف عن ‘البلاي باك’ وأقرب إلى مصطلح التكامل الصوتي؛ يتضمّن الموسيقى الإلكترونية التي لا يمكن الاستغناء عنها اليوم في مثل هذه العروض لأنها مادة متطوّرة جدا، وبالتكامل معها نقدّم الموسيقى الحية التي تعرض على المسرح بشكل يتفاعل مع الموسيقى المسجلة وفق أحدث نظم التسجيل في العالم، وهي تجربة تحمل الكثير من الحرفية والجمال”.
مسرحة الموسيقى
عن أوركسترا ماري وعودتها إلى العمل بنشاط وحيوية يقول رعد خلف “الجميل في أوركسترا ماري أنه بالرغم من فترة الغياب الطويلة وسفر الكثير من عناصرها خارج سوريا تعود مجدّدا في كل مرة، فنجمع حوالي خمسين عازفة لكي يقدّمن للجمهور حفلا جديدا. وهذا شيء مفرح في العرض، خاصة أنه يضمّ أجيالا متنوّعة من الصغير إلى الكبير، فالحفل تضمن وجود البعض من متفوقات معهد صلحي الوادي وطالبات المعهد العالي للموسيقى بدمشق وخريجات المعهد العالي وخريجات الجامعات الأوروبية”.
أما في ما يتعلق بوجود مساحة مسرحية في حفله فيقول “لكي نعرف تفاصيل حياة أي مدينة لا بد من معرفة عناصرها، وهذا ما يفسّر وجود البعد الثالث بعد الموسيقى والسينما وهو المسرح. ووجود الكاتبة لوتس مسعود كان إضافة مبرّرة، فهي تكتب باللهجة المحكية المحببة أشياء جميلة ولها العديد من المتابعين على مواقع التواصل الاجتماعي، منهم محبو فنون الرقص والغناء والمسرح، لذلك كان وجودها في العرض جزءا حيويا وكأنه خطوة في رواية حقيقة هذه المدينة وما يكون فيها من تفاصيل حياتها اليومية”.
ودأب رعد خلف خلال مسار حياته على ألاّ يكون ثابت المكان في حضوره وطروحاته الموسيقية، بل كان دائم التجدّد والتغيّر، وهذا ما جعله صاحب المبادرة في تكوين العديد من التشكيلات الموسيقية المختلفة، كانت بواكيرها مع رباعي دمشق الوتري، ثم أعقبته تجارب أخرى مثل أوركسترا زرياب وساكو وأوركسترا الحجرة و أوركسترا الأطفال في معهد صلحي الوادي، كما قاد الفرقة الوطنية السيمفونية السورية، ولاحقا أوركسترا ماري التي تقوم على عنصر الفتيات، وهي فرقة نادرة الوجود في المنطقة العربية.
وقدّم مشروعات فنية عديدة تناول في قسم منها حضارة منطقة سوريا القديم، فقدّم في أول ظهوراته في هذا الملمح “حفل في ماري”، ثم أعقبه بـ”ألواح أوغاريت” الذي استخدم فيه أول نوتة موسيقية وجدت في التاريخ منذ ما يقارب الأربعة آلاف عام واكتشفت على رقيم في مدينة أوغاريت السورية، ثم كانت تجربته التاريخية الثالثة بتقديمه “ليلة من إيبلا”.
ورعد خلف موسيقي عراقي، ولد في مدينة البصرة وعاش في بيت موسيقي؛ فوالده الموسيقي العراقي الشهير حميد البصري الذي حقّق مكانة موسيقية عالية في فضاء الأغنية الملتزمة عربيا، ووالدته المغنية شوقية العطار شريكة حياة حميد البصري، وهما اللذان شكّلا معا حالة فنية عراقية كبيرة التأثير عربيا تجلت في تكوين “فرقة الطريق” الشهيرة.
ودرس خلف الموسيقى في العراق ثم في الاتحاد السوفييتي قبل أن يستقرّ في سوريا. عمل في فنون الدراما فقدّم موسيقى العشرات من الأعمال في سوريا ومصر ومنطقة الخليج العربي، منها مسلسلات “عمر الخيام” و”الصندوق الأسود” و”مرايا” و”الأخوة” و”الغفران” و”أسمهان” و”ملكة في المنفى” و”في حضرة الغياب” و”هدوء نسبي” و”عرب لندن” و”الظاهر بيبرس” و”ليلى مراد” وغيرها. وفي المسرح قدّم “سفر النرجس” و”آخر حكاية” و”تقاسيم على العنبر” و”اليوم والبارحة وغدا”، وفي السينما ساهم في أفلام “حسيبة” و”سيلينا” و”بنتين من مصر” و”أمير البحار” وأحدثها “دم النخل”.
كما له العديد من البحوث الموسيقية منها: الموسيقى والفن التشكيلي، والموسيقى والدين، وموسيقى الحضارات القديمة، والعلاقة السمعية – البصرية.

