رشيد نكاز ناشط مدني يحرج النخب السياسية ويفجر الانتفاضة

لا تبدو الجزائر هذه الأيام، كالجزائر التي عرفناها خلال العقود الماضية. انفجر الكامن لدى الناس، وبدا أن صبرهم نفد. بعد ترشيح الرئيس بوتفليقة لولاية خامسة تقول لهم أولا إنه لا خيار لديهم سوى الاستمرار في حالة العجز والعبث. اندفعوا إلى الشوارع معبرين عن رفضهم لجفاف الحياة السياسية في بلادهم، باحثين عن خيارات أخرى.
ووسط هذه الأجواء وبين التطوع لدفع غرامات النقاب في فرنسا والدول الأوروبية من ماله الخاص، وبين الدفاع عن حرية المرأة في لباس البحر، يبرز اسم الناشط السياسي الجزائري رشيد نكاز، مؤسسا لمعادلة تتجاوز متناقضات السياسة والأيديولوجيا، من أجل الوصول إلى قصر الرئاسة الجزائرية، عبر استثمار مشاكساته الخفيفة وأعصابه الباردة في كسب تعاطف الجزائريين.
شرارة الغضب
حين كان الجميع يئن تحت دكتاتورية نظام الرئيس التونسي الأسبق زين العابدين بن علي، لم يكن أي تونسي أو مغاربي وحتى عربي، ينتظر أن تتحول حكاية صفعة شرطي وطاولة خضار، إلى شرارة غضب جارف أطاح بواحد من الأنظمة السياسية في المنطقة، وهو السيناريو الذي يتقاطع في العديد من التفاصيل مع نكاز الذي حولته تصرفات بعض أعوان الدولة إلى قائد شعبي تصطف وراءه الجماهير نصرة له في سباق الانتخابات الرئاسية.
لو حدث مكروه للسلطة السياسية القائمة في الجزائر قبل الانتخابات الرئاسية في أبريل القادم، فإن التاريخ سيسجل بين دفاته أن نكاز، هو صانع أو الشاهد على صناعة المكروه المذكور، فلأول مرة في تاريخ الجزائر المستقلة يتم إنزال صورة رئيس بلاد من مكانها وتمزيقها والدوس عليها، والسبب هو تعنت واستفزاز أعوان السلطة لجماهير كانت تنتظر رشيد نكاز أمام مبنى بلدية خنشلة في الجنوب الشرقي للبلاد.
ولم يكن أي أحد من المتابعين يتوقع للمشاكس الخفيف وصاحب الأعصاب الباردة، عكس بني جلدته، أن يستقطب خلفه كل تلك الآلاف التي باتت تنتظره أينما حل أو ارتحل، من أجل التعبير له عن دعمها ومساندتها له في خوض سباق الانتخابات الرئاسية المقررة في أفريل المقبل.
توظيف ذكي لأخطاء السلطة
وقد تحمل الشاب المغترب في سنواته الأخيرة كل أشكال العنف اللفظي والجسدي والمضايقات الإدارية والأمنية، لكن إرادته الصلبة تخرجه في كل مرة منتصرا، رغم أنه رجل أعزل ليس له إلا سلاح وحيد، هو هاتف ذكي مشحون في كل الأوقات، ولو كانت جائزة تسدى لأكبر مواطن صحافي في الجزائر، فستكون من دون شك من نصيب نكاز.
كان كل شيء على ما يرام خاصة بعدما تعود الرأي العام على الرجل وعلى ترحاله الدائم بين ربوع البلاد والعواصم العالمية، لكن اعتداء أرعن خلال الأيام الماضية، من طرف فلول حزب جبهة التحرير الوطني الحاكم في مدينة تلمسان الحدودية، على نكاز وعلى بعض أنصاره، حرك مؤشر شعبيته إلى الأعلى.
ولم يكن للرجل أن يستقطب كل هذه الأضواء، لو لم يقطع ثلاث دول في أقل من 24 ساعة، من أجل الوفاء بالوعد الذي قطعه لأنصاره في مدينة بوسعادة، للحضور معهم في نشاط حواري وجمع توقيعات استمارات الاكتتاب لاستمارات الاستحقاق الرئاسي.
لم تسمح له سلطات الأمن في مطار مرسيليا الفرنسي بالصعود للطائرة المتوجهة للجزائر العاصمة، دون أن تقدم له تبريرات، ومن أجل الوفاء بوعده لأنصاره، استقل في نفس الأمسية الطائرة المتوجهة إلى برشلونة الإسبانية، ومن برشلونة إلى مطار هواري بومدين، وظهر في تسجيل مباشر في ساعات الصباح الأولى، في أروقة المطار وهو يعتزم شد الرحال إلى مدينة بوسعادة لملاقاة أنصاره.
نكاز لا يكل ولا يمل ولا يتعب ولا يخاف شيئا، ليمثل بذلك النموذج النضالي الحديث، فثروته المكتنزة لم تعلمه الكسل وحياة الرفاهية والبذخ، فهو يعيش لأفكاره ولمشروعه ومستعد للبذل والعطاء لأجلهما، وقضاء الليلة مكبلا في مخفر الشرطة أو في فندق الخمس نجوم سيان عند رشيد نكاز.
لم يكن رئيس بلدية خنشلة المنتمي لحزب جبهة التحرير الوطني يعلم أن تصرفه الاستفزازي في حق سكان البلدية وأنصار الناشط والمترشح الرئاسي، سيقلب عليه الطاولة وقد يقلبها على حزبه ونظامه.
فبسبب رفضه التصديق على استمارات نكاز، ومنشوره المستفز لأنصاره وللسكان، وجد نفسه هائما على وجهه فارا من غضب السكان الذين أنزلوا صورة بوتفليقة من مكانها ثم مزقوها وداسوا عليها بأرجلهم، في تصعيد نوعي غير مسبوق في تاريخ البلاد السياسي، انتقاما من السلطة التي نصبت رئيس البلدية ورسالة قوية للنظام الذي يمعن في الاستخفاف بعقول الجزائريين بترشيح رئيس لا أحد يعلم أين هو.
نكاز يتحول إلى مطلب جماهيري
الجماهير الغاضبة في ساحة بلدية خنشلة، كانت تهتف بحياة رشيد نكاز، “الله أكبر رشيد نكاز”، “نكاز رئيس”، ورغم أن السلطة حاولت احتواء الموقف، بصدور قرار توقيف فوري في حق رئيس البلدية، وتبرّئ منتخبين محليين وبرلمانيين مما صدر منه، فإن الهتافات بحياة نكاز لم تنقطع إلى غاية مغادرته المدينة متوجها إلى مدينة أخرى.
ورغم أنه لا يستند إلى وعاء انتخابي منظم أو حزب سياسي مهيكل، فحزب “الشباب والتغيير” الذي أسسه لم يرخص له من طرف وزارة الداخلية، إلا أنه استطاع بإمكانياته الخاصة وبشخصيته البسيطة أن يطوف بربوع البلاد ويشرف مباشرة على عملية جمع وتوقيع استمارات الاكتتاب، عكس مرشحين آخرين يقبعون خلف مكاتبهم، وتحيط بهم سلاسل من البيروقراطيين والوصوليين والانتهازيين.
ولم يستقر الرجل لحد الآن على مقر للمداومة الانتخابية أو جهاز إداري وتنظيمي، باستثناء مكتب متنقل وبعض المرافقين، ويقضي معظم وقته متنقلا أو مترجلا في الساحات العمومية والاحتكاك بالأنصار والمتعاطفين، ورغم أنه لم يكشف من برنامجه شيئا للرأي العام ولم يلتق مع وسائل الإعلام، إلا أن أوراق الفساد والظلم والجهوية وشيخوخة السلطة والولاية الخامسة لبوتفليقة، أغنته عن كل الخطابات الجوفاء ولغة الخشب، وعززته بالآلاف من الأنصار والمتعاطفين حيثما حل أو ارتحل.
أذهل نكاز المتابعين بنشاطه الماراثوني واحتكاكه اليومي بالشارع، وأدخل قواعد ممارسة جديدة في النشاط السياسي، بعدما أثبت لأعتى القوى والأحزاب السياسية أن النضال هو نشاط دؤوب ونزول دائم من الأبراج العالية
يكفي الاقتراب من نكاز أو الحديث معه لاكتشاف الشخصية البسيطة لأصيل بلدة عين امران بمحافظة الشلف وذكائه الحاد، وحتى الأعصاب الباردة التي لا يمكن استفزازها من أمهر الصحافيين أو المحدثين، وصموده الحديدي في وجه الضغوط والمضايقات والتوقيفات الأمنية.
لا صدفة ولا ارتجال
ولأنه لا يختلف اثنان في الجزائر على دهاء السلطة القائمة، فإن نكاز لا يترك مجالا للصدفة أو المفاجأة، وكيف وضعه الإداري والشخصي مع الشروط الصارمة التي وضعها المشرع في المترشح للانتخابات الرئاسية، بما في ذلك بطاقة الناخب وشهادة الإقامة والجنسية الجزائرية الأصلية والوحيدة له والجنسية الجزائرية لزوجته.
فقد تنازل منذ سنوات عن الجنسية الفرنسية، وكيّف وضعه الإداري مع زوجته الأميركية، بشكل لا يثبت زواجه لدى الإدارة الجزائرية، كما يكون قد استلهم من تجربة الانتخابات الرئاسية للعام 2014، التي أقصي منها لعدم توفر الشروط المذكورة، حيث ذكر حينها المجلس الدستوري “المحكمة العليا” عدم استيفاء استمارات الاكتتاب، بينما صرح هو بأن علب الاستمارات سرقت من السيارة التي ركنها داخل حظيرة الهيئة، ووجدت بعدها مرمية في بلدة موزاية في محافظة البليدة.
ولذلك فإن نكاز يكون أخذ جميع احتياطاته، ولو أن المراقبين يتوقعون توقف قطار العديد من المترشحين في محطة المجلس الدستوري، خاصة بالنسبة للمترشحين من ذوي الجنسية المزدوجة أو المقيمين في المهجر، على غرار نكاز وغاني مهدي، ولو أن صوت الشارع سيكون له مكانه، وأن أنصار الرجل لا يفرطون في مرشحهم بسهولة، خاصة إذا راجعت السلطة حساباتها من أجل تفادي انزلاقات شعبية على غرار ما وقع في مدينة خنشلة.
توق الجزائريين لرئيس طبيعي
يعلق البعض على الفيسبوك أن سر الالتفاف الشعبي حول نكاز، هو توق الجزائريين لرئيس يمشي ويتكلم، فآخر عهد لهم برئيس البلاد يخطب فيهم يعود إلى سبع سنوات خلت، ومذاك لم يعودوا يعرفون رئيسهم إلا برسائل تتلى عليهم وتنسب إليه، أو بصور تلفزية يذكر طويلو اللسان بأنها تقضي ساعات طويلة في مخبر التركيب، قبل عرضها للرأي العام ليرى رئيسه في أحسن وضع ممكن.
لقد تجاوز المترشح نكاز كل الخطابات السياسية الكلاسيكية والمرجعيات الأيديولوجية، في انتقال نوعي يؤسس لمشهد حديث قوامه الاحترام وحرية الاختلاف وتحكيم القانون والحريات والعدالة الاجتماعية، فالرجل مستعد للجمع بين أقصى اليمين وأقصى اليسار في بوتقة واحدة، ولا ضير عنده في الدفاع عن حرية قائد جبهة الإنقاذ الإسلامية المحظورة علي بلحاج، وعن حق “حركة استقلال القبائل” المعروفة بالاختصار اللاتيني بـ“الماك”.
ومن حق جميع الجزائريين في نظر الرجل، الدفاع عن أفكارهم وانتماءاتهم، بمن فيهم الإسلاميون والحداثيون، فقد دافع بشدة عن حرية علي بلحاج في التنقل والتحرك في تراب الجمهورية، لما كان في حي باب الواد الشعبي بالعاصمة، وهو الحي الذي انطلقت منه شرارة انتفاضة أكتوبر 1988 التي أنهت الأحادية السياسية، ويعتبر أحد قلاع التيار الإسلامي، ولما تنقل إلى تيزي وزو القبائلية، دافع عن حركة “الماك” الانفصالية، وشدد على ضرورة فتح الأبواب والمنابر للتعبير عن تصورها في إطار ما يسميه بـ”القانون والدستور”.
لو حدث مكروه للسلطة السياسية القائمة في الجزائر قبل الانتخابات الرئاسية في أبريل القادم، فإن التاريخ سيسجل بين دفاته أن نكاز، هو صانع أو الشاهد على صناعة المكروه المذكور، فلأول مرة في تاريخ الجزائر المستقلة يتم إنزال صورة رئيس بلاد من مكانها وتمزيقها والدوس عليها
أذهل نكاز المتابعين بنشاطه الماراثوني واحتكاكه اليومي بالشارع، وأدخل قواعد ممارسة جديدة في النشاط السياسي، بعدما أثبت لأعتى القوى والأحزاب السياسية أن النضال هو نشاط دؤوب ونزول دائم من الأبراج العالية، وأحرج بذلك كبار الساسة والنشطاء الذين ألفوا التحرك البيروقراطي وإحاطة أنفسهم بجدران المتزلفين والانتهازيين، مما عمق الهوة بين الشعب والطبقة السياسية، ونفّر الشارع من الانخراط في الاستحقاقات الكبرى.
ويمكن أن تكون بعض أرقام غينيس في حوزة الرجل دون أن يعلن عنها، فهو الناشط السياسي الوحيد الذي قطع المئات من الكيلومترات سيرا على الأقدام، من شرق البلاد إلى غربها ومن شمالها إلى جنوبها، دفاعا عن أفكاره وتعاطفا مع الكثير من القضايا المثيرة للجدل، على غرار قضية الغاز الصخري، فقد سار من أقصى شمال البلاد إلى غاية مدينة عين صالح في عمق الجنوب، من أجل التعبئة والتضامن مع الحراك الشعبي الذي انتفض العام 2014 ضد استكشاف واستغلال الغاز الصخري في المنطقة.
اليوم بات نكاز أكبر السياسيين الجزائريين المتعرضين للمضايقات الأمنية والتوقيفات، وأكثرهم قضاء لليالي في مخافر الشرطة، ومع ذلك لم يبد استسلاما أو تراجعا، ولم تضعف إرادته الصلبة في ملاحقة من يصفهم بـ”الفاسدين والمفسدين”، في أي مدينة من العالم، رغم ما يواجهه من تعنيف وملاحقات.