رسام فرنسي يتحول إلى عدو في الحرب على روسيا

غيّر متحف “ناشيونال غاليري” الشهير في لندن اسم إحدى لوحات الرسام الانطباعي الفرنسي إدغار ديغا من “راقصات روسيات” إلى “راقصات أوكرانيات”، وفق ما أعلن الاثنين الصرح الثقافي البريطاني إثر مطالبات في هذا الصدد منذ الغزو الروسي لأوكرانيا. وأوضح المتحف البريطاني في بيان له “حدّث اسم الرسم لجعله يعكس موضوع العمل بصورة أفضل”. وقد أثارت هذه الخطوة الغريبة ردات فعل مناهضة في شتى أنحاء العالم.
من الصعب القبول بعملية الاحتيال التي مارسها المعرض الوطني “ناشيونال غاليري” بلندن حين قام بتغيير عنوان لوحة الفرنسي أدغار ديغا (1843 - 1917) من “راقصات روسيات” إلى “راقصات أوكرانيات” مساهمة من المؤسسة الفنية العريقة في الحرب التي تشهدها أوكرانيا. فتلك المساهمة جرت على حساب الحقيقة التاريخية من خلال تمرير مواقف دعائية سياسية سيكون من العسير التثبت من أنها ليست زائفة.
خفة لا يصدقها المرء. علينا منذ الآن أن نعيد النظر بمصداقية المتاحف التي صارت واجهات سياسية بعد أن خذلتنا يوم تحوّلت إلى واجهات سياحية. ولكن أن تصل عملية الدعاية السياسية المضادة إلى درجة يكون فيها التاريخ الفني هدفا للتزوير، ذلك ما لا يتمنى المرء أن يعيش لحظته.
تزوير التاريخ
المتاحف هي مرجعيات لا يرقى إليها الشك. ومصداقيتها غير قابلة للنقاش أو الجدل. حين يكون هناك نوع من الشك فالمتاحف هي مصدر اليقين.
كل ذلك صار من الماضي في ظل حرب الدعاية المضادة التي لم تعد تفرق بين بوتين ودوستويفسكي. سيكون علينا أن ننتظر حذف أزنشتاين من تاريخ السينما وتولستوي من تاريخ الرواية وجايكوفسكي من تاريخ الموسيقى وكاندنسكي من تاريخ الرسم ومايكوفسكي من تاريخ الشعر لأنهم روس وهم أعداؤنا. ماذا عن فرقة البولشوي للباليه؟
أوروبا تتعثر بغباء زعمائها الطائشين الذين فشلوا في حل الأزمة الأوكرانية وساهم فشلهم في تحويل تلك الأزمة السياسية إلى كارثة إنسانية.
المتاحف مرجعيات لا يرقى لها الشك. ومصداقيتها غير قابلة للنقاش والجدل وممارسة التزوير فيها فضيحة
وإذا ما كانت أفواج اللاجئين الأوكرانيين متوقعة فإن سلسلة الحماقات التي ترتكبها المؤسسات الثقافية الأوروبية لم تكن متوقعة.
كانت هناك جامعة في ميلانو منعت تدريس روايات دوستويفسكي (1821 - 1881) وها هو الـ”ناشيونال غاليري” يصفعنا بحماقة جديدة سيكون من شأنها أن توسع من دائرة الغباء في الحرب الغربية على روسيا التي لم تعد حربا روسية على أوكرانيا.
ولأن ديغا ليس روسيا فقد كان عقابه مختلفا. لقد تم التلاعب بتاريخه لأنه رسم راقصات روسيات. كان مولعا برسم راقصات الباليه. الانطباعي الذي يُشار إليه دائما بأنه رسام راقصات الباليه. ولأن روسيا هي واحدة من أكثر الدول اهتماما بذلك النوع من الرقص التعبيري الصعب فقد كان طبيعيا أن يقوم ديغا برسم راقصات باليه روسيات. وكان طبيعيا أن يُسمي لوحته “الراقصات الروسيات” وهو حر في ذلك.
أما أن يزعم المتحف البريطاني العريق بأن باحثة أوكرانية اكتشفت الآن أن ديغا كان قد رسم راقصات أوكرانيات فإن ذلك محض افتراء على التاريخ والحقيقة وديغا الذي تعرض تاريخه الشخصي للتزوير. فهل كانت أوروبا كذلك دائما؟
الجانب المظلم
كان هناك اطمئنان إلى مستوى أخلاقي في أوروبا غير موجود في الولايات المتحدة. أميركا ليست أخلاقية في ما يتعلق بتاريخ الآخرين وإنسانيتهم لذلك فإن أحكامها لا يُعتد بها فهي ليست صاحبة حضارة. كل شيء فيها جديد ويقوم على المنفعة.
أوروبا التي يُطلق عليها الأميركان القارة العجوز هي خالقة العصر الحديث. لولا أوروبا لما كانت أميركا. روح الغرب الحقيقية هي في أوروبا وليست في أميركا. لذلك فقد كان متوقعا أن تكون أوروبا أكثر اتزانا وحكمة من أميركا حين يتعلق الأمر بالصراعات الدولية.
ولكن كما يبدو فإن أوروبا الحاضر ليست هي أوروبا القرن العشرين وبالضبط في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية وما تلاها من عقود. أوروبا اليوم هي تابع للولايات المتحدة بالرغم من أن البعض يعتقد أن الخبث البريطاني يؤثر كثيرا على الأهواء الأميركية.
ما يهم هنا أن أوروبا صارت أصغر من حقيقتها. حين ذهب جزء كبير من أوروبا، كانت أوكرانيا منه وراء الولايات المتحدة من أجل احتلال أفغانستان والعراق، كان ذلك الحدث بداية النهاية لاستقلال أوروبا السياسي الذي جاء انفصال بريطانيا عن الاتحاد الأوروبي “بريكست” ليؤكد أن الولايات المتحدة تريد أن تسحقه.
في الأزمة الأوكرانية بدا واضحا أن أوروبا لا تصلح لحل مشكلة تقع على أراضيها. إنها أضعف من أن تقوم بذلك. تلك ليست هي الحقيقة ولكن الواقع السياسي فرض عليها أن تكون كذلك. لذلك نراها تتعثر بحماقاتها. ربما تكون فضيحة لوحة ديغا هي أقل الفضائح تأثيرا، غير أنها تكشف عن الجانب المظلم الذي تعيشه أوروبا في ظل ضعفها وتبعيتها للولايات المتحدة.