رسالة من بين الغيم والماء

هذه هي المرة الأولى التي أكتب فيها مقالا من هذا المكان. كتبت الكثير في الصحارى والبوادي والمدن البعيدة في الشرق والغرب، لكن لم أكتب مرة واحدة وأنا على متن طائرة معلقا بين السماء والبحر ينطبع ظلها على المتوسط بحر الحضارات العريق.
بهذه الوضعية يطبق عليّ من الجانبين نوعا الفوبيا المتحكمان بعقلي طيلة الوقت؛ فوبيا الارتفاع عن سطح الأرض، وفوبيا البحر وعالمه المجهول. فما أسعدني في هذه اللحظات!
تستطيع إلهاء نفسك عن دقات قلبك، بالتصفير فتنظر إلى السماء، لتجدها قريبة من رأسك، ويمكنك التلهّي بإرخاء البصر، حينها سترى الغيم تحتك. وكي تهرب منه تقول أتوغل فيه بعيني، فيظهر البحر فتقفز أمُّ المخاوف من كل مكان.
لكن سمك القرش الذي ينغل في الحياة العادية لا يقلّ خطورة عن ذئاب البحر ومجاهيله، فلا رحمة ولا لطف ولا من يحزنون. وحين تعلم أن بعض البلدان ذات الأنهار العريقة قد بدأت بتطبيق سياسة ما يعرف بـ”التحكم الذاتي“ على أهلها، تصيبك القشعريرة.
ماذا يعني التحكّم الذاتي؟ هو آلية تمكّن الدولة من فتح الحنفيات وإغلاقها في منابع تلك الثروة التي تشعل الحروب وتغير الديموغرافيا وتقلب البلدان رأسا على عقب.
قرأت في صحيفة يومية عربية أن قطاع ”التليميتري“ في وزارة الموارد المائية والري المصري قرّر الغوص في الآبار الجوفية المرخّصة، وحدّد نوع وحجم المضخات المركبة عليها وساعات فتحها وإغلاقها، ليس هذا فقط، بل حدّد حتى نوع المحصول الذي سيزرع على المياه الناتجة عنها.
الذريعة هي وضع حدّ للري الجائر والهدر. وقد يبدو هذا أمرا عظيما في ترشيد وحفظ الثروات الوطنية، إلا أنه نمط جديد من التحكّم لا يسعنا تخيّل أن العالم الخارجي يستخدمه.
أكثر من ذلك، قرّرت الوزارة توقيع بروتوكول تعاون مع محافظة الوادي الجديد، لتركيب أجهزة رصد وتحكم لـ19 بئرا، تتم مراقبتها وتشغيلها أوتوماتيكيا عن بُعد، من خلال غرفة تشغيل مركزية، بعد تركيب “مجسات” تعمل بالطاقة الشمسية. هذا الإجراء المرعب انطلق بعد تقرير التنمية البشرية في مصر الذي كشف عن نتائج كارثية متوقعة بسبب سد النهضة الإثيوبي.
حسنا. السماء من فوقكم وقد تنزل عليكم ما لا تتوقعون، والبحر من تحتكم وفيه الضواري، والأرض يلاحقها الذين يحصون أنفاس عيون الماء، فما العمل؟
لا حلّ لكل ذلك سوى بالتنوير والتوعية المبكرة، والجيل الحالي عليه أن يرى اهتمام ذويه بالأمور المستقبلية في كل لحظة، حتى يدرك أهمية ما يمكن أن يقع، قبل أن يقع. أساسا في بلاد السحر والنور والوفرة، لا يجوز لمثل هذا أن يقع.