رسائل الإعدام.. نصوص استثنائية
” لا أمل..”، هذه خلاصة من سجين محكوم بالإعدام سُرّبت قبل يومٍ من إعدامه، اختصر حالته على ورق السجائر، وقتها لم يجد في ذاكرته ما يكتبه غير هذه الكلمات الموجزة التي اكتفت بيأسها صريحة ودالّة عن حجم المأساة الشخصية التي عاشها ووثقها بطريقته المختزلة.
تشكل الرسائل شكلاً أدبياً من أشكال السرد الروائي وهو شكل قديم، لكنه يتجدد بين عصرٍ وعصر حتى وصلنا إلى شكل الرسائل الإلكترونية التي انضمّت إلى قوافل السرد الروائي وطالعْنا بعض الروايات عربياً وعالمياً التي وظّفت هذا النوع من الرسائل كوسيط جديد ينوب عن حبكة فنية أو موقف أو مشهد تصويري أو تداعيات وما إلى ذلك.
رسائل الإعدام المسرّبة والمهرّبة تعد مختصراتٍ وشفراتٍ تصل بمشقة إلى الآخر وبسرية تامة وبأقل ما يمكن من الكلمات موجِزة الحالة إلى حد ضغطها ببضع كلمات من أجل أن تصل إما كنداء استغاثة أو إيصال فكرة اليأس أو توجيه لجماعة معينة أو كلمات وداع يائسة. وينجح القليل من المحكومين بالإعدام في تهريب رسائلهم إلى ذويهم وأصدقائهم في محاولة أخيرة للبقاء على قيد الحياة أو بالأصح على قيد الذكرى.
تُهرّب رسائل الإعدام بسبل شاقة وغريبة محفوفة بالمخاطر والمجازفات الشخصية على أمل أن تخرج من الظلام المعتم إلى النور الخارجي، كي تصل للآخر مكتوبة على قصاصات أوراق تالفة وعلى أعقاب سجائر وعلى قش ناعم وأعواد ثقاب ونتف قماش بالية بل وحتى على تراكمات أوساخ يابسة!
يمكن أن أتخيّل أن المحكوم بالإعدام يكتب على الهواء ويزفره وينفخ عليه ليطير خارج قضبانه ويصل إلى كل مكان، وأستطيع بنفس الخيال أن أترك السجين يفتش في رأسه عن قملةٍ أخيرة ويكتب عليها كلمة وحيدة، فليس غريباً الإمساك بذيل الحياة قبل أن تتوارى في غروبها الأخير.
تُكتب رسائل كهذه ببقايا أقلام وبقايا دبابيس وبقايا أظافر وبقايا رموش بلا حبر في الكثير من الأحيان وقد يكون الدم بديلاً عن محبرة الجسد فهو الحبر الشاهد والشهيد في نهاية الأمر.
توصف مثل هذه الرسائل بأنها مقتصدة العبارة، مكثفة، مضغوطة، مباشِرة، دالّة. فالسجين يكثّف لحظاته أثناء الكتابة، حتى لتبدو وكأن الحياة بمجموعها عبارة عن تلك القصاصات الصغيرة المهملة. وأن السطور المكتوبة بيد مرتعشة وقلم مكسور هي خلاصة سيرة إنسانية وجدت أنها في نفق أسود لا تستطيع عبوره. وهي بذلك تكشف باطن الحرف مثلما تكشف ظاهره.
رسائل الإعدام نصوص أدبية مكثفة إلى أقصى حدود التكثيف، وقد تكون ممتلئة بحبكة الكتابة ومكتظة بالصور والتداعيات الملحّة حتى في انضغاطها الأخير، في استعداد السجين للإملاء على نفسه بما تختزله له لحظته الأخيرة من معانٍ أثناء التدوين اللاقط لأنفاسه الأخيرة. لهذا علينا أن نعدّ رسائل الإعدام جنساً أدبياً تحت أي مسمى نقدي. وهي لون شائع في أدبيات السجون، ولعلها النصوص الوحيدة الاستثنائية المهرّبة التي لا تقع عين الرقيب عليها لتصل إلى الآخرين بسرية تامة.
“لا أمل في النجاة “، هي الصرخة الأخيرة التي دوّنها القاص والأديب العراقي حاكم محمد حسين في ثمانينات القرن الماضي على ورقة سيجارة قبل إعدامه واختزل فيها مصيره الذي اتضح له وهو وراء القضبان فصرخ صرخته الأخيرة. كانت آخر الكلمات له بعدما رأى اليأس كائناً يدبُّ في أوصاله قبل أن تقتله رصاصة الجلاد. رسائل الإعدام ومدونات الحيطان في أروقة السجون. نصوص أدبية فذة. مَن يبحث فيها؟
كاتب من العراق