ردع التحرش ببيئة العمل في مواجهة ثقافة التسامح مع الجناة

آلية التحقق من شكوى ضحية التحرش معضلة تقف عائقا أمام تطبيق العقوبة.
الأحد 2023/11/12
ثقافة لوم الضحية تشجع المتحرش على تكرار جريمته

يحتاج المجتمع المصري إلى عقوبات رادعة للمتحرشين عموما وفي بيئة العمل خصوصا، ورغم إقرار تعديلات لمكافحة هذه الظاهرة لا يزال التطبيق يواجه معضلة كبيرة سواء من جهة آلية تطبيقه أو من جهة إمكانية خروج المرأة عن صمتها الذي اعتادت عليه في مجتمع يبرر التحرش ضدها ويلوم الضحية، إضافة إلى إشكالية حمايتها من انتقام ذوي السلطة والنفوذ في العمل.

القاهرة - اتخذت الحكومة المصرية خطوة جديدة بإقرار عقوبة للتحرش الجنسي في بيئة العمل بعد أن وجدت ضرورة قصوى لمحاسبة صارمة ضد الاعتداءات التي تطال النساء لفظيا وجسديا في أماكن عملهن في مؤسسات حكومية أو خاصة، كإحدى أدوات الترهيب والردع الموجهة ضد المتحرشين.

ووافقت لجنة الشؤون التشريعية في مجلس النواب المصري على تعديلات أدخلتها الحكومة على قانون العقوبات بشأن وقائع التحرش التي تطال النساء في أماكن العمل ووسائل النقل العام المختلفة، في خطوة لاقت ترحيبا من منظمات معنية بشؤون المرأة بعد أن زادت هذه الوقائع في الآونة الأخيرة من دون عقوبات رادعة.

ويعاقب بالحبس مدة لا تقل عن ثلاث سنوات ولا تتجاوز خمس سنوات، وغرامة تصل إلى مئتي ألف جنيه (نحو خمسة آلاف دولار)، كل من تعرض لأنثى فـي مكان العمل أو بإحدى وسائل النقل العام أو الخاص، وتصل العقوبة لسبع سنوات إذا كان الجاني يحمل سلاحا أو تكرر الفعل منه عبر الملاحقة والتتبع للمجني عليها.

أصوات نسائية تقول إن الاحتماء في الغزل والملاطفة محاولة لتبرير التحرش الجنسي والتهرب من العقوبة

وإذا كان الجاني ممن له سلطة وظيفية أو إدارية على المجني عليها أو مارس ضغطا معنويا أو ماديا تسمح له الظروف بممارسته عليها تكون العقوبة بالسجن مدة لا تقل عن سبع سنوات وتصل إلى عشر سنوات في بعض الحالات إذا وقع الأذى الجسدي والنفسي والمعنوي على الضحية جراء ممارسات التحرش ضدها.

وتصطدم مساعي الحكومة لتطهير المجتمع الوظيفي من التحرش الجنسي لإقرار عقوبات مشددة بانتشار ثقافة التسامح النسائي مع الجناة، وعدم اللجوء إلى محاسبتهم قضائيا أو التقدم بشكوى ضدهم، خوفا من جلب الفضيحة للمرأة والتشهير بها داخل بيئة العمل أو تدخل وسطاء للعفو عن المتهم حفاظا على مستقبله.

ضغوط نسوية

أصوات حقوقية تطالب بإلغاء أي نص قانوني يسمح بتنازل ضحية التحرش عن حقها في مقاضاة الجاني
أصوات حقوقية تطالب بإلغاء أي نص قانوني يسمح بتنازل ضحية التحرش عن حقها في مقاضاة الجاني

وهذه هي المرة الأولى التي تتحرك فيها الدولة المصرية لمواجهة التحرش الوظيفي بصرامة بعد ضغوط مارستها منظمات نسوية وحقوقية وجمعيات معنية بقضايا المرأة، ووصل الأمر حد ابتزاز الضحايا وترهيبهن للامتناع عن القصاص لأنفسهن، وإذا فكرن في الشكوى هناك معضلة ترتبط بإثبات صحة الشكوى لتطبيق العقوبة.

ويعتقد متابعون لوقائع التحرش في مصر أن العقوبات المشددة ضد المتحرشين في بيئات العمل مهما كانت صارمة لن تكون كافية أمام سلبية بعض النساء وغياب الجرأة عن شريحة منهن في الاعتراف بتعرضهن للاعتداء اللفظي والجسدي من زملائهم ورؤساؤهم، خشية ردة فعل البيئة الوظيفية والتشكيك في أخلاقهن وتصرفاتهن.

وترتبط النظرة التشاؤمية بشأن مواجهة التحرش الوظيفي بالعقوبات بأن العديد من مؤسسات العمل في مصر غير مكترثة بأن أي فعل مشين تجاه المرأة يمكن تصنيفه على أنه معيب ويستحق المساءلة القضائية، وليس من السهل وضع حد للاعتداءات الجسدية عبر مسارات قانونية تجهلها النساء أو تخشى السير فيها.

وتتفق غالبية الأصوات الحقوقية المعنية بشؤون المرأة في مصر على أن سن تشريعات جديدة لا يكفي إذا لم ترتبط بمدى شجاعة المرأة لمواجهة رجل متحرش يمتلك سلطة ونفوذا وظيفيا عليها وتتمسك بمقاضاته ومعاقبته مهما كانت الضغوطات والتهديدات التي سوف تقع عليها داخل بيئة العمل.

لوم الضحية

عبير سليمان: مطلوب أن تكون هناك تفسيرات قانونية تحمي الموظفات من الانتقام إذا أبلغن عن وقائع تحرش
عبير سليمان: مطلوب أن تكون هناك تفسيرات قانونية تحمي الموظفات من الانتقام إذا أبلغن عن وقائع تحرش

وتكاد لا تمر واقعة تحرش جنسي في مصر دون ارتفاع أصوات تتعمد لوم الضحية، ما يدفع الكثير من النساء إلى العزوف عن السير في مقاضاة المتحرش على اعتبار أن هناك من يستسهلون تقديم مبررات استباقية للواقعة، ويكون التسامح مع الجاني فرض عين على هذه الفئة إلا لو كانت الفتاة تتمتع بقدر كبير من الشجاعة لجلب حقوقها.

وتظهر ازدواجية المجتمع في التعامل مع وقائع التحرش ضد النساء في الجدل الذي أثير حول العقوبات المرتبطة ببيئة العمل أو وسائل المواصلات، فهناك أصوات رأت في التعديلات التشريعية تضييقا على الرجل، مقابل منح مساحة أوسع للمرأة لتفعل ما تريد ولو بابتزاز زميل أو رئيس العمل من خلال الوشاية باتهامه بالتحرش.

ورأت نساء أن التحرك الحكومي يحمل انتصارا للمرأة التي تتعرض للعنف والاضطهاد في الأماكن العامة والعمل لكن لا تستطيع إثباته أو تكون لديها مظلة قانونية تحتمي بها ضد إخضاعها رغما عنها، وتخويفها من إمكانية ضياع مستقبلها بخسارة الوظيفة أو الجور على حقوقها المادية.

وقالت عبير سليمان الناشطة والباحثة في قضايا المرأة إن أهم ميزة في التعديلات القانونية الجديدة أنها ترهب المتحرشين في بيئات العمل، لكن المعضلة ترتبط بتعامل المجتمع والمؤسسات الوظيفية مع التحرش، فهناك شريحة كبيرة لا تزال تتعاطف مع الجاني وتحاول إنصافه بدعوى أنه تعرض لابتزاز وتشهير كجزء من الانتقام.

ردع المتحرش يحتاج إلى صوت عال
ردع المتحرش يحتاج إلى صوت عال

وأضافت سليمان لـ”العرب” أن المرأة ليست من الجنون لتدّعي على زميلها أو رئيسها في العمل بتهمة التحرش بها، ومطلوب أن تكون هناك تفسيرات قانونية تحمي الموظفات من الانتقام إذا أبلغن عن وقائع تحرش لتجنب الاستهداف والتربص والتشهير والفضيحة، ليكون ذلك دافعا لكل من تتعرض لهذا الفعل أن تكون جريئة في المواجهة.

وتروج بعض الأصوات الذكورية إلى أن سن عقوبات للتحرش في بيئات العمل يحمل ترهيبا للرجل من الاقتراب إلى المرأة بأي قول يحمل غزلا وملاطفة، فقد يدخل ضمن تصنيف التحرش، وليس مقبولا أن يكون الاقتراب من النساء في الحقل الوظيفي بكلمة عابرة يحمل اتهاما وقد يُستغل الموقف للانتقام والابتزاز ولو كان الهدف مغازلة.

وتقول أصوات نسائية إن الاحتماء في الغزل والملاطفة محاولة لتبرير التحرش الجنسي والتهرب من العقوبة، لأن أي فعل أو قول يحمل إيحاء جنسيا لا تقبله الأنثى ويتم فرضه عليها باستمرار هو تحرش يسهم في خلق بيئة غير آمنة للمرأة، وتضطر إلى تقبله رغما عنها حتى لا تتهم بأنها تتعمد الانتقام والابتزاز.

الصمت لا يكفي

عادل بركات: السلبية النسوية في المواجهة تشرعن التحرش لأن فكرة الردع غير مطبقة
عادل بركات: السلبية النسوية في المواجهة تشرعن التحرش لأن فكرة الردع غير مطبقة

وعانت أميمة إبراهيم، وهي موظفة بإحدى المؤسسات الحكومية في القاهرة من عبارات وكلمات تحمل مداعبة غير مقبولة من مديرها، وكلما طالبته بالتوقف عن هذا السلوك يرد بأن الأمر لا يخرج عن كونه مداعبة لطيفة للتعبير عن الافتتان بجمالها، لكنها لم تعد مرتاحة لذلك التصرف المتكرر وتخشى شكواه.

وقالت إبراهيم لـ”العرب” إنها عندما استشارت إحدى زميلاتها في المسار الذي تسلكه لإيقاف المدير عن هذه التصرفات جاءتها نصيحة زميلتها بالصمت حتى لا تتعرض للفضيحة والاستهداف وإمكانية الإقصاء من الوظيفة لأنها لن تستطيع إثبات التهمة، ما جعلها تلتزم على مضض وتتقبل الأذى النفسي الذي تعيشه.

وتشير الواقعة إلى أن إقرار عقوبات ضد التحرش في بيئات العمل يظل دون قيمة، لأن المؤسسات الوظيفية ليست لديها آلية للتحقق من شكوى المرأة ضحية التحرش، وعدم توفير الأمان الكامل إذا قررت الحصول على حقها فهي لا تضمن العواقب.

وأمام حاجة الكثير من النساء إلى الوظيفة والمال أمام سوء الأوضاع المعيشية واستمرار الثغرات القانونية في التشريعات المرتبطة بحمايتهن من العنف والأذى والتحرش، يظل الصمت أمرا واقعا، لأن المجتمع نفسه لم يغير نظرته بشكل إيجابي مع ضحية التحرش، إذ يعتبرها أحيانا مذنبة.

ويصعب فصل التحرش الجنسي في بعض أماكن العمل بمصر أو أي بلد عربي آخر، عن انتشار الفساد وغياب الرقابة، لأن هناك روابط قوية بين الفساد المالي والإداري والأخلاقي، ما يجعل الكثير من حالات التحرش في العمل ناجمة عن رؤسائها الرجال لما يتمتعون به من سلطة ونفوذ وغياب للرقابة.

Thumbnail

وأكدت عبير سليمان في تصريحها لـ”العرب” أن القضاء على التحرش في أماكن العمل يتطلب أن تعامل جموع الموظفين مع أي فعل غير سوي تجاه المرأة على أنه معيب ويمس الرجولة والكرامة والشهامة ويسيء لصورة المؤسسة، ونشر هذا الفكر يعزز مواجهة المتحرشين، ويشجع النساء على التصدي بلا خوف.

ويعتقد متخصصون في العلاقات الاجتماعية أن أيّ عقوبة يتم إقرارها مهما كانت مشددة، لن تحد من وقائع التحرش الوظيفي لأن أسرة الفتاة نفسها سلبية ولا تقدم الدعم النفسي للقصاص من الجاني، وقد يتم إقناعها بالصمت من جانب العائلة حتى لا تخسر الوظيفة أو تتعرض للتشهير بما يؤثر على سمعتها.

ويتمسك هؤلاء بأن الدعم الأسري لضحية التحرش أكبر حافز لها على الانتصار لكرامتها ضد الجاني مهما كانت سلطته الوظيفية، أما غياب التشجيع العائلي لها في مواجهة شخص صاحب نفوذ عليها سوف يكرس مخاوفها من الاستهداف، لأنها بلا ظهير أسري يدعمها ويجعلها قوية وشجاعة في القصاص لنفسها.

وصاية أسرية

Thumbnail

ويؤيد عادل بركات، الباحث في شؤون العلاقات الاجتماعية والمحاضر في التنمية البشرية، هذا الرأي، مؤكدا أن التربية الأسرية للفتاة هي الفيصل في شجاعتها على مواجهة وردع أي متحرش أم لا ولو كان رئيسها في العمل، ولأن المجتمع المصري يفرض الوصاية الأسرية على الأنثى فهي تستشير أسرتها دائما في قراراتها.

وأوضح لـ”العرب” أن انتزاع حق المرأة العاملة في وقف أي استهداف لفظي وجسدي لها يتوقف على شجاعتها الشخصية، طالما أن أسرتها قد تكون سلبية وتخشى عليها من خسارة المال والوظيفة، بالتالي من الصعب أن تؤدي التشريعات إلى إنصاف ضحية التحرش إذا كسرت جدار الصمت وقررت أن تكون شامخة في مواجهة المتحرش.

بعض الأصوات الذكورية تروج إلى أن سن عقوبات للتحرش في بيئات العمل يحمل ترهيبا للرجل من الاقتراب إلى المرأة بأي قول يحمل غزلا وملاطفة

ولفت إلى أن السلبية النسوية في المواجهة تشرعن التحرش لأن فكرة الردع غير مطبقة بدليل أن هناك ترسانة تعديلات على القوانين التي تعاقب على فعل التحرش لفظا وفعلا، ولا تزال هناك وقائع مسكوت عنها، ولم يعد التحرش قاصرا على النظرات والكلمات الإباحية بل يمتد أحيانا إلى لمس أجساد النساء بطريقة مقززة.

وتطالب بعض الأصوات الحقوقية بإلغاء أي نص قانوني يسمح بتنازل ضحية التحرش على مقاضاة الجاني، لأن الضغوط ووسائل الترهيب التي تقع على الموظفة تفوق قدرتها على المواجهة والتحمل، وتضطر إلى القبول بالتصالح ما يفرض على الحكومة ومؤسسات القضاء معالجة هذه الثغرة لأن التهمة مثبتة بالأدلة والشهود.

وإذا تم إلغاء التصالح في جرائم التحرش فإن ذلك يشجع المرأة، سواء أكانت عاملة أو فتاة عادية أن يُرفع من على كاهلها وصاية الأسرة والزملاء، وتصبح أكثر تحررا من القيود التي تفرض عليها وتدفعها إلى التساهل مع الجاني، ما يقود إلى المزيد من ترهيب الذئاب البشرية وجعلهم أكثر حرصا على التعامل مع المرأة بانضباط.

وتتفق أصوات معتدلة على أن الوصول إلى مجتمع وظيفي خال من التحرش يبدأ من تعامل الحكومة والمؤسسات العمومية مع مثل هذه الوقائع كشأن يمس هيبة الدولة، وعليها أن تقتص للمجتمع وتحاسب الجاني بعيدا عن شجاعة الضحية وأسرتها أم لا، شريطة اعتبار التحرش من جرائم النظام العام التي لا تسقط فيها العقوبة.

15