رحيل أديب مصري وضع خطا فاصلا بين استقلالية المثقف والسلطة

بهاء طاهر.. وداع رسمي وشعبي لصاحب "البوكر" وناقد الأحداث التاريخية.
السبت 2022/10/29
أديب حظي بالاحترام لمواقفه الواضحة

من النادر أن تجد في الوسط الأدبي مثقفا واضحا، في اختياراته الشخصية والفكرية، واضحا حتى في انتماءاته الأيديولوجية ومواقفه من الشأن العام ومنها الأوضاع السياسية، والمفكر الراحل بهاء طاهر واحد من هؤلاء النادرين، حيث جعله وضوحه الشديد أديبا بارزا وجاء رحيله ليذكر بمدى التزامه بالانتماء إلى القيم الإنسانية والدفاع عنها.

القاهرة - شارك مئات من المثقفين في تشييع الأديب المصري البارز بهاء طاهر إلى مثواه الأخير الجمعة وسط حالة من الحزن خيمت على الوسط الثقافي برحيل أحد أبرز الأدباء العرب، والذي يشكل رحيله خسارة أدبية ليس من السهل تعويضها.

رحل طاهر الأربعاء عن عمر يناهز 87 عامًا بعد رحلة طويلة ترك فيها بصمته الواضحة في الأدب عبر العديد من الأعمال التي لاقت انتشاراً واسعًا في مصر والعالم العربي على مدى عقود، واستطاع أن يصنع لنفسه مكانة كبيرة في قلوب مثقفين ومواطنين عاديين نظروا إليه كأحد أبرز الأسماء التي لديها مواقف واضحة في الشأن العام عبر معايشته لكثير من الأحداث السياسية في التاريخ المصري المعاصر.

وتقدمت وزيرة الثقافة المصرية نيفين الكيلاني المشاركين في جنازة الأديب الراحل التي شيعت من مسجد الشرطة بمدينة السادس من أكتوبر في غرب القاهرة، وعبرت عن حزنها الشديد “لفقدان كاتب عظيم من رعيل الكتاب الكبار، جادت به أرض مصر ليثري الإبداع والمكتبة العربية بعشرات من الروايات والدراسات”، وأضافت الوزيرة أنه “كان يمتلك قلما يفيض عذوبة وإنسانية”.

سيد محمود: طاهر كاتب منحاز للقيم الإنسانية وللعدالة الاجتماعية
سيد محمود: طاهر كاتب منحاز للقيم الإنسانية وللعدالة الاجتماعية

ورسم بهاء طاهر، وكان في نظر المثقفين اسما على مسمى لحالته النادرة، خطاً فاصلاً بين المثقف الذي يقود الرأي العام وبين الأنظمة العديدة الحاكمة التي عاصرها منذ فترة الستينات، واستطاع أن يحافظ على استقلاليته التي ظهرت في المجموعات القصصية والروايات التي قدمها على فترات مختلفة، وتطرقت إلى نقد الأوضاع الاجتماعية والسياسية والثورات المتعاقبة بما فيها ثورة 1919 عبر روايته “واحة الغروب” التي حصل بها على جائزة البوكر.

ومزج الأديب الراحل بين العمل الإعلامي والأدبي، إذ انطلقت مسيرته المهنية في مجال الترجمة بالهيئة العامة للاستعلامات، وهي هيئة حكومية تتولى مخاطبة الإعلام الدولي في مصر، قبل نشره أولى مجموعاته القصصية بعنوان “الخطوبة” في أوائل سبعينات القرن الماضي، وقدم أعمالا روائية وقصصية في شكل دراما إذاعية، وعمل مخرجاً ومذيعاً في إذاعة البرنامج الثاني (البرنامج العام حاليًا) حتى عام 1975.

ولد طاهر في محافظة الجيزة عام 1935 لأسرة تعود جذورها إلى الأقصر في جنوب مصر، وهو ما ظهر تأثره به في العديد من أعماله الأدبية، وتخرج في كلية الآداب قسم التاريخ عام 1956 من جامعة القاهرة، ثم حصل على دبلوم الدراسات العليا في الإعلام شعبة إذاعة وتلفزيون سنة 1973 من الجامعة ذاتها.

وقدم سلسلة من الروايات ومجموعات قصصية أثرت المكتبة الأدبية العربية، أبرزها “بالأمس حلمت بك”، “أنا الملك جئت”، “شرق النخيل”، “قالت ضحى”، “ذهبت إلى شلال”، “خالتي صفية والدير”، “الحب في المنفى”، “عرض ونقد”، “أبناء رفاعة”، “الثقافة والحرية”، “ساحر الصحراء” وهي ترجمة لرواية “الخيميائي” للأديب العالمي باولو كويلو، “نقطة النور” و”واحة الغروب”.

وحاز على العديد من الجوائز الأدبية منها، جائزة الدولة التقديرية في الآداب سنة 1998، جائزة “جوزيبي إكيربي” الإيطالية سنة 2000 عن رواية “خالتي صفية والدير”، وجائزة “آلزياتور” الإيطالية لعام 2008 عن رواية “الحب في المنفى”، إلى جانب الجائزة العالمية للرواية العربية “البوكر” عن روايته “واحة الغروب”.

وقال الناقد الأدبي سيد محمود إن الراحل بهاء طاهر واجه العديد من الصعوبات بسبب استقلاليته التي ظل محافظًا عليها حتى وفاته، وفي بداية فترته المهنية التي عمل فيها بالإذاعة واجه تضييقًا في بداية السبعينات في عهد الرئيس أنور السادات مع ظهور موجة “ثورة التصحيح”، حيث جرى تصنيفه على أنه من داعمي الناصرية وما ضاعف من ذلك روايته “شرق النخيل” التي قدمت إدانة لعملية التسوية السياسية مع إسرائيل ووجد أن استمرار بقائه في مصر لن يكون ملائماً للحفاظ على استقلاليته، وتمسك بفرصة العمل التي جاءته كمترجم ضمن فريق الأمم المتحدة في جنيف.

وأضاف في تصريح لـ”العرب” أنه خلال فترة سفره للعمل بالخارج التي استمرت نحو عقدين، سمح له المناخ المحيط به بأن يتفرغ للكتابة إلى جانب عمله بالترجمة، ومنح لنفسه قدرة أكبر لإظهار إبداعاته الأدبية، لأن فترة بقائه في مصر منذ أن تخرج من الجامعة وحتى سفره لم يقدم سوى روايتين فقط، هما “شرق النخيل” و”الخطوبة”.

بهاء طاهر رسم خطاً فاصلاً بين المثقف الذي يقود الرأي العام وبين الأنظمة العديدة الحاكمة التي عاصرها
بهاء طاهر رسم خطاً فاصلاً بين المثقف الذي يقود الرأي العام وبين الأنظمة العديدة الحاكمة التي عاصرها

واستطاع طاهر في فترة الثمانينات أن يقدم واحدة من كنوز السرد العربي من خلال المجموعة القصصية “طلع الضحى” التي جرى استقبالها بشكل رائع في ذلك الحين وكتب مقدمتها البديعة الكاتب إدوار الخراط.

وفي ذلك الحين استثمر طاهر صداقاته مع رئيس تحرير مجلة المصور المصرية الراحل مكرم محمد أحمد، وحافظ على النشر فيها بصورة منتظمة ونشر من خلالها روايته “الحب في المنفى” التي وصفها الناقد الأدبي الراحل علي الراعي بأنها “رواية كاملة الأوصاف”، وأنهى فترة حضوره في الخارج بتقديم رواية “خالتي صفية والدير” قبل أن يعود إلى مصر في منتصف التسعينات ويستقر فيها حتى رحيله.

وأضاف الناقد سيد محمود، وهو أحد المقربين من الأديب الراحل، أن طاهر تطرق إلى نقد كافة الأحداث التاريخية التي وقعت منذ الستينات، وأن رواية “قالت ضحى” تطرقت إلى مراجعة قرارات الرئيس الراحل جمال عبدالناصر وحوت إدانة لمسألة ما سمي “بمراكز القوى” والمشاركة في حرب اليمن.

وفي الوقت نفسه التأكيد على المكاسب التي تحققت لشريحة كبيرة من المواطنين عبر تجربة الانحياز للفقراء، كما أن رواية “الحب في المنفى” عبر فيها عن انحيازه الواضح للثورة الفلسطينية، والتأكيد على تضامنه مع منطلقات الكفاح القومي.

وذكر محمود لـ”العرب” أن العامل الأبرز في أدب طاهر يكمن في تركيزه على القيم الإنسانية العليا والانحياز للعدالة الاجتماعية ومراجعة التاريخ طوال الوقت مستفيداً من خلفيته الدراسية، حيث تعمق في التاريخ وحاول فهم فترات الصعود الوطني.

وشملت رواية بهاء طاهر “أبناء رفاعة” ما يدعم استقلالية المثقف المصري، مع ضرورة أن لا يكون تابعًا لأي سلطة، والعكس، أي أن تكون السلطة هي التي تتبع المثقف، ووقف أمام تاريخ رفاعة الطهطاوي في هذا المجال.

إبراهيم عبدالمجيد: طاهر من المغامرين الكبار في تجديد شكل القصة
إبراهيم عبدالمجيد: طاهر من المغامرين الكبار في تجديد شكل القصة

وكان التأكيد على الاستقلالية حاضراً أيضَا في رواية “واحة الغروب” التي تطرقت إلى قصة الضابط الثائر محمد عبيد الذي شارك في التحريض على الثورة ضد الاحتلال الإنجليزي، وجسد فيها صورة خيانة الثورة وفي الوقت ذاته تسليط الضوء على المواقف النضالية التي يجب أن يتبناها الناس العاديون.

وأشار الكاتب والروائي الكبير إبراهيم عبدالمجيد إلى أن طاهر بالنسبة إليه “معلم وأستاذ ومن المغامرين الكبار في تجديد شكل القصة ولم يكن مجرد شخص لديه القدرة على الحكي، ولم تكن القصة معه تقليدية تتشكل من بداية ووسط ونهاية ويمكن أن تبدأ من أي نقطة وتنتهي نهاية مفتوحة وتكون لحظة الذروة خفية تدركها بعد أن تنتهي القصة، وتلخص كتاباته بالنسبة إليه كل ما قرأ عن التجريب”.

وأكد في تصريح لـ”العرب” أن بهاء طاهر لم يكن بعيداً عن أحلام المثقفين المصريين وكان حاضرا في مظاهرات “أدباء من أجل التغيير” والمظاهرات التي اندلعت بعد حريق قصر ثقافة بني سويف في العام 2005، الذي راح ضحيته عدد كبير من خيرة مثقفي وفناني مصر، وكان حاضرا في ميدان التحرير خلال ثورة يناير 2011.

وعبر الراحل عن مواقف مؤيدة لثورة يناير ثم 30 يونيو عام 2013 التي أزاحت حكم تنظيم الإخوان، وكان في كافة الأحداث وسط صفوف المثقفين، ولم يتوان عن أن تكون له بعض المراجعات الخاصة بشأن مواقف سياسية تبناها من قبل، وهو ما جعل بعض المثقفين يصفونه أنه “الكاتب الشاب” الذي يحضر في التوقيتات المناسبة وينزوي في التوقيتات المناسبة أيضا.

15