"رحلة زمن عبر الزمن" مسرحيات مستقبلية لأطفال تأسرهم التكنولوجيا

يعتبر مسرح الطفل من أهم الروافد الأساسية في تكوين أجيال متوازنة ومؤمنة بذواتها وبالآخر نظرا إلى ما يخلقه من جو تفاعلي، ولكن لتحقيق أقصى فائدة من الأعمال الموجهة للأطفال صار لزاما على المسرحيين وكتاب النصوص المسرحية التخلي عن الوعظ والتلقين، والاتجاه إلى التفاعل مع الانفتاح على التكنولوجيا، وهو ما وعته الباحثة والكاتبة زينب عبدالأمير.
تتفق الفلسفة التربوية على أهمية التربية والتعليم، ودورها الرائد في تشكيل الوعي وبناء الشخصية، وصناعة النموذج للجيل القادم. لهذه الأهمية تعنى الدول بمدخلات التربية والتعليم ومخرجاتها من تبني فلسفة بناء الوعي، وإقرار مناهج وبرامج دراسية تكون فيها الفنون العمود الفقري كونها “نصا موازيا” للعملية التربوية ومن هذه الفنون المسرح.
يعتبر المسرح فنا نبيلا يهذب النفس ويقوم العقل، واستعمل كوسيلة تربوية للأجيال الناشئة، إضافة إلى دوره التعليمي، وتحمل كل مسرحية مغزى وعبرة. ولذلك تعد المسرحية المقدمة للطفل أصعب أنواع الكتابات لما فيها من عناصر وشروط يجب توفرها.
توظيف المناهج

زينب عبدالأمير كاتبة جمعت في نصوصها ما بين الألفاظ الموحية والمعلومة المفيدة والخيال بالإضافة إلى الجرس الموسيقي للأناشيد المعبرة
إن الكتابة للطفل تتطلب جهدا غير يسير ومهارات متعددة لإنتاج أدب يلبي حاجة الطفل، ويفتح أمامه آفاقا رحبة تحقق له رغباته ومن ثمة تهيّئ شخصيته للمستقبل، لهذا فإن كاتب النص المسرحي للأطفال عليه أن يعيش عالمهم، ويتقمص شخصياتهم، ويفهم نفسياتهم، ويدرك بموضوعية قدراتهم، ويتفهم ملكاتهم، ومن ثمة يبدأ في الكتابة فيختار النص وعلومه بأسلوب اللفظ البسيط والفكرة الواضحة والتي تتوافق والتعامل الأسري التربوي.
الكتابة الموجه للطفل تعتبر ركيزة أساسية في تنشئته، فالطفل يتفاعل مع النص من خلال الحدث والشخصيات، ويراقبها بدقة، ويشاركها آمالها وآلامها، لذلك فكاتب النص يعتمد على خصوصيات فنية تختلف عن باقي خصوصيات الأجناس الأدبية الأخرى كالرّواية والشعر، ومن ثم فالمسرحية كتبت لتشاهد وتعرض لجمهور معين، وهنا يصبح النص عملا مخصوصا، فهو مكون أساسي كغيره من مكوّنات العرض المسرحي الحيّ المتمثل في الإخراج، السينوغرافيا، والتمثيل والموسيقى.
الخصوصية التي يحملها المسرح الموجه للطفل تجعلنا نبحث في أغواره عن توظيف مختلف المناهج والأدوات النقدية، وتندرج هذه المفاهيم والمناهج ضمن إحدى المحاولات التي تهدف إلى معرفة مكونات الخطاب المسرحي للطفل والذي تتداخل فيه الشخصيات الإنسانية بالمعرفة المستقبلية.
فالمعني بالكتابة للطفل سوف يخاطب عقول الأطفال ومشاعرهم ليحركها ويجعلها تتأثر، ويمكننا أن نرى أهمية ذلك في العرض المسرحي الموجه للطفل في مختلف وسائل التعبير المسرحي التي يتوخاها، وفي مقدمة تقنيات العرض المسرحي التعبير عن غير الملموس، في سعي لتوسيع منافذ الشعور الداخلي للعرض في وجدان الطفل وذائقته الفنية والثقافية وملكة الخيال، دون إغفال المفاهيم التربوية والمعرفية في العمل المسرحي الموجه للأطفال مع مراعاة الفارق العمري.
ونستدل على أهمية التقنيات المسرحية في الأعمال الموجهة للطفل من خلال مجموعة نصوص مسرحية بعنوان “رحلة زمن عبر الزمن” ومسرحيات أخرى للباحثة زينب عبدالأمير، بمشاركة الدكتور حسين علي هارف في نص مسرحي بعنوان “يد بيد”، أما الشاعر جليل خزعل فقد ساهم في كتابة بعض الأناشيد.
وتعتبر هذه النصوص من التجارب المسرحية الجديدة والتي رأت فيها الكاتبة ضرورة مواكبة التطوّر الذي عرفته مختلف الفنون وأيضا ساهمت في تطوير المسرح نصا وعرضا. وتطرح عبدالأمير العديد من الأفكار والمواضيع في نصوصها مثل الحرية، والنظرية النسبية لأينشتاين، وغيرها من الأفكار التي تحمل مضامين وجودية وعلمية وفلسفية.

مسرحيات من التجارب الجديدة والتي رأت فيها الكاتبة ضرورة مواكبة التطوّر الذي عرفته مختلف الفنون والعلوم والتقنيات
ولم يعد المسرح اليوم إذا مجرد فضاء للمتعة فحسب، وإنما أصبحت له وظائف جديدة تعدت ذلك إلى منح النص جماليات خاصة على غرار ما تمنحه الشعرية للنصوص الأدبية من جماليات علاوة على سعيه للتأسيس للمعرفة في جو متوازن ينجح في ترسيخ الفكرة في أذهان المتلقين الصغار دون علوية تعليمية أو وعظ.
وبات مسرح الطفل أكثر المسارح إقبالا على توظيف تقنيات صورية إلكترونية معبرة، إذ صارت جزءا من العرض نظرا إلى التزايد الكبير في اهتمام الأطفال بالتكنولوجيا الرقمية، التي أصبحت تمنح لهم عوالم خيالية سحرية تغذّي فضولهم وحبهم للمغامرة. وهذا ما دفع إلى تغيير طرق الكاتبة والاشتغال على النصوص الدرامية، كما نرى في مسرحيات عبدالأمير، التي نجدها فيها بحنكة العارف في مهنته إدراكا منها لمدى أهمية الفهم المعاصر في إكساب النص المسرحي الموجه للطفل بعدا مفاهيميا بالإضافة إلى الخطاب الجمالي.
أجادت الأكاديمية زينب عبدالأمير في هذه التجربة “الكتابة للطفل” كونها تمتلك حصيلة معرفية هامة، وتجربة مهنية كان لها الأثر الكبير في تفتيق موهبتها التأليفية، التي تخطت البدايات المتواضعة إلى مرحلة الصنعة في الكتابة، الكتابة بأسلوب السهل الممتنع، وربما جاءتها فكرة توظيف التقنيات الفنية من وسائل التواصل إلى الدرس المفاهيمي في مواكبة للتطورات الكثيرة التي يعرفها مسرح الطفل.
واستفادت الكاتبة كذلك من الدراسة النفسية والاجتماعية للطفل وتكوينه المعرفي، وتوجهه الفكري، لتعمل على صياغة خطاب مفاهيمي بيداغوجي داخل النصوص الدرامية كرسائل في شكلها وبنائها الهيكلي، وسياقها وبواعثها التأليفية، أيضا دقة المعلومة من المصادر التي استقت منها الكاتبة مادتها العلمية، أو استندت عليها في تحريرها، بما يمكن من استكناه مضامينها وحواملها المعرفية، واكتشاف وظائفها المفصحة عن “الذات الكاتبة”.
كتابة مستقبلية
من مؤلفات الدكتورة زينب عبدالأمير البيداغوجية “النصوص التربوية”، وهذه النصوص الممتعة في عنوان هذه المجموعة دليل على الاهتمام في هذا الجانب الحيوي والمهم، فالكتابة لهذه الفئة المهمة داخل المجتمع لها قيمة كبرى وتتطلب وعيا بالجانب التربوي.
وتناولت هذه النصوص الفائدة العلمية دون إغفال الجمالية باعتبارها نسيجا من العلاقات المتشعبة الجديرة بالاكتشاف، فكلما كانت هذه العوالم مثيرة لاهتمام الطفل في مختلف الأزمنة والأمكنة كلما اكتسب النص مزيدا من الحيوية والأصالة. وتمّ التركيز في هذه النصوص على تفاعلية الطفل ومحاكاته بحيث يكون قادرا على استخلاص المعطيات من خلال تحليل فعال وتأويل متماسك لكل عمل درامي.
النصوص جمعت ما بين الألفاظ الموحية والمعلومة المفيدة والخيال بالإضافة إلى الجرس الموسيقي للأناشيد
أما عن أسلوب الكاتبة فقد جمعت في نصوصها ما بين الألفاظ الموحية والمعلومة المفيدة والخيال بالإضافة إلى الجرس الموسيقي للأناشيد المعبرة والمنسجمة مع الأحداث والصور البسيطة، وتوظيف الحواس في تشكيل الصورة اللغة والأسلوب، حيث تمثل اللغة عنصرا فارقا في الكتابة للأطفال، وفيها تتجلى بعض الخصائص التي وضحت للأطفال، ومنها: العمل الجماعي، وغلبة لغة المحسوسات من أجل إيقاظ ذهن الطفل، وتقديم الراوي لمخاطبة الجمهور.
وفي الختام نقول قليلة هي النصوص الدرامية المكتوبة للأطفال، بالرغم من وجود عدد لا بأس به من الكتاب الذين يمتلكون الخبرة في هذا المجال وفي هذا الفضاء المعرفي، وبالطبع مراعين المستويات اللغوية والعقلية ومعرفة خصائص وسمات كل مرحلة من مراحل الطفولة، وأن هذا الفضاء لا ينحصر في لون واحد وإنما يشمل المعارف الإنسانية كلها.
أما عن أهداف الكتابة الدرامية الأطفال، فهناك أهداف تربوية وأخرى معرفية ووجدانية وأهداف ترفيهية وترويحية وأهداف ثقافية وفنية تحمل خصائص مراحل الأطفال، وتعبر عنهم، وفيها يتم انفصال الكاتب عن ذاته المبدعة، فيكتب من خلال ذات الطفل، لذلك نجد أن المعايير تختلف باختلاف الفئة العمرية للطفل، والمسرحيات ليست فقط نصوصا درامية من ورق، بل مشاهدة بصرية (قراءة أو فرجة).
مجموعة “رحلة زمن عبر الزمن” من النصوص الدرامية التي تعتبر ثمرة ما تحدثنا عنه من خصوصيات لمسرح الطفل، والتي اتخذت منها الكاتبة منطلقا لنهجها الكتابي المعرفي وخطت خطوة مغايرة للكتابة المستقبلية عن عالم الأطفال وقضاياه وأهميته وخصائصه وأهدافه، وكم نحن في حاجة إلى الكثير والكثير من هذه النصوص الدرامية المغايرة والمتجاوزة للمتعارف عليه من نصوص أصبحت ماضيا بالنسبة إلى عالم الميديا المعاصر وأمام تحديات العصر.