رحلة البحث عن الذات من قرى مصر إلى برلين

نشرت دار الشروق المصرية مؤخّرا الأعمال الكاملة للكاتب المصري عبدالحكيم قاسم، وكانت حياة قاسم مُوزّعة على الغرف بكل ما تحمل من انقباض وكآبة، وهذا ما أثّر على مجمل أعماله الأدبية وخاصة في روايته “قدر الغرف المقبضة”، حيث حلّ الانقباض على كلِّ شيء.
البحث عن الذات
رواية عبدالحكيم قاسم “قدر الغرف المقبضة”، التي نشرتها مجدّدا دار الشروق، ترصد مسيرة بطلها عبدالعزيز منذ طفولته في القرية. تلك الطفولة التي ضاقت من كآبة الغرف وضيقها إلى المراهق الذي تتبلور بذهنه الأسئلة دون محاولة للإجابة عنها، إلى الطالب في المبيت غمر ثمّ في مرحلة تالية في الإسكندرية طالبا جامعيا، إلى رحلته في سجون مصر، وأخيرا رحلته إلى برلين، وما حدث له من أحداث جعلته ينتقل من حجرة إلى أخرى دون أن تفارقه كآبة الغرف التي شهدها من قبل.
عبر هذه التنقّلات بين الأزمنة المختلفة وكذلك الأماكن لا نرى المؤلف يعمد إلى ترتيب زمني كرونولوجي في تتبع هذه المسيرة. فعلى الرغم من البنية التصاعدية للحكاية والأحداث فإن الاضطراب والتحلّل في عملية الترتيب والتتابع الزمني هي الملمح المميّز لهذه البنية الزمنية.
فمع حرص الراوي الغائب الذي تسند إليه مهمّة السّرد على إحداث نوع من التتابع الزمني في الأحداث والمشاهد، إلا أن الذاكرة تستدعي بعض الأحداث المرتبطة بزمن قبل زمن السرد الحالي، وهو ما يُحْدث نوعا من قطع الوحدة الزمنية، وأيضا المشهد المسرود.
بعد انتقال البطل عبدالعزيز إلى برلين تتجدّد مشكلته الأزلية، التي لا تفارقه حتى بعد مغادرته مصر والأماكن التي سبّبت له الكآبة. وهي البحث عن سكن ملائم، سكن غير السّكن القابض على روحه وقلبه. وتطل عليه ذكرياته عن القاهرة عندما أتى إليها مع والده، وفيها ينتقل من غرفة إلى أخرى، ومن حي إلى آخر، حتى يأتي إليه أبوه ويعود معه إلى القرية.
في هذه المرحلة يتفتّح وعي عبدالعزيز، فيبدأ بالتعرف على الآخرين، وأول مَن يتواصل معها كانت المومس النوبية، وشاب تعامله مع الآخرين الحذر، فالسكان “أصناف من الطلاب، وصغار الموظفين والبائعين الجوالين والعمَّال، وصغار تجار المخدرات” وفي ظلِّ هذا التنوّع من البشر عاش بينهم ولكنه مرعوب، حتى ألفهم وعرف أنهم “ضعاف كالقش، لكنهم أيضا ينتفضون كالقطط بلا رحمة ويخمشون بوحشية”.
مع كل هذا التآلف بين البشر، بدأ يضيق بالمكان كله، فلا يجد الاستقرار الظامئ إليه، والباحث عنه في كل الأماكن التي انتقل إليها، فزادت آلامه بعدما توافقت مع آلام وأحزان الآخرين، والتي ـ هو نفسه ـ لم يجد لها سببا، فأخذ بالتفكير في تحقيق أحلامهم هو وصديقاه صلاح وشوقي، المرتكزة على التطلُّع إلى روما وأثينا وباريس.
وبعد إنهائه لدراسته الثانوية، يلتحق بكلية الحقوق بجامعة الإسكندرية، وهناك يسحر بالمدينة منذ لحظة وصوله محطة سيدي جابر. وفي ظلّ مرحلة النشوى لسحر هذه المدينة يتمنى أن “يترك نفسه في حضن هذا البلد الرقيق الحبيب”.
المؤلف لا يعمد إلى ترتيب زمني كرونولوجي في تتبع مسيرة بطله، فالأحداث مضطربة ودون ترتيب وتتابع زمني
مرآة السجن
المرحلة الأكثر إيلاما لعبدالعزيز هي عندما تمَّ القبض عليه وهو في القاهرة من مقر عمله، ليقضي أربعين شهرا بين سجون مصر المختلفة. الغريب أن الرّاوي لم يقدّم لنا أسباب هذا الاعتقال أو الأفكار التي اعتنقها فجعلته خطرا فاستلزم سجنه أو حتى انتماؤه لتيار أو تنظيم سياسي. وكانت مرحلة السجن مرحلة مهمّة في حياة البطل، حيث في هذه المرحلة بدأ يكتشف هواية الكتابة، ومن داخل السجن بدأ يكتب أعماله التي أخذت تنشر في مجلات مثل الآداب البيروتية، وغاليري 68.
الشيء المهم هو أن السجن جعل عبدالعزيز يتوحد مع الآخرين، فلا يحكي عن ذاته وأزماتها كما في المراحل السابقة، وإنما عن عذابات الآخرين، وبذلك ـ لأول مرة ـ ينتقل من الخاص إلى العام. فيحكي عن أوجاع الآخرين الذين يرسفون في الأغلال، في سجن مصر والقناطر، والواحات، وأسيوط، إلى بورسعيد. أما سرده عن ذاته فلم يعد كما كان سابقا، سردا لتفاصيل حياته، وانتقالاته، وإنما بدأت ذاته تواجه نفسها عبر أسئلة ـ ربما لا يجد إجابة لهاـ فمعظمها كان يُوأد في داخله حيث لا إجابات.
كما أدرك بوعيه، أن محاولته لفهم موقفه والحكم عليه كانت مستحيلة. وعندما يرى هؤلاء الناس في غرف السجن عاكفين على الكتب والكراريس ويرى أن قامتهم أكثر انكسارا وهشاشة، هكذا بدأ اهتمام عبدالعزيز بالآخرين يتبلور، بل أخذ الآخرون بؤرة اهتمامه كلها. وقد وصل الاهتمام إلى التعجُّب والاندهاش مِن تصرفات المسجونين، رغم أنه يراهم “أناس طيّبون وهشون، لكنهم سريعو التقلب غدارون، بل يحرص كل واحد منهم على الاحتفاظ بنصف شفرة حلاقة وينهال على جسده تقطيعا” فلا يكتفي برصد حياتهم داخل السجن، وإنما يغوص في أعماقهم، ليقتنع بتلك التصرفات التي تجمع بين الضدين: الهشاشة والحدة، الطيبة والغضب.
|
ومع كل ما يشاهده في السجن وما استفزه وتفاعل معه، إلا أن مسألة المقارنة بين الأمكنة في محاولة البحث عن مأوى ملائم، تسيطر عليه داخل السجن، فعبر انتقالات من سجن إلى آخر يلاحظ الفروق بين السجون، فيصف سجن الإسكندرية بأنه “أكثر نظافة، والأرض رمليّة والمباني جديدة ولون الشمس على الجدران أكثر شحوبا” ومع أسئلته واهتماماته بالآخرين، يبدأ تآلف عبدالعزيز مع واقعه.
وتأتي المرحلة ما قبل الأخيرة وهي مرحلة الخروج من السجن والعودة إلى البلد، وما تبعها من عودة الأسئلة الشائكة عن كآبة البيوت، رغم ما حلّ على المكان من رونق، فقد دُهكت الجدران وسوّيت الحفر، وهدم الجدار بين وسط الدار مكان الزريبة.
استعارت الرواية من السيرة الذاتية بنيتها، فالمحور الذي ارتكزت عليه السيرة منذ بدايتها حتى نهايتها، هو حُلم الانفلات والانعتاق من الغرف المقبضة. فعبد العزيز/البطل كان كلّ همّه الانفلات من أَسْر هذه الغرف، ومقاومة ريحها الكابس على روحه وقلبه.
والذي لازمه في مسيرة حياته من طنطا والإسكندرية والقاهرة، أو في سجون مصر المختلفة، كما استمرّ يلازمه خلال رحلته إلى برلين، والتي اعتقد أنَّها طوق نجاة له، ليقع في أسر غُرف أخرى لا تقل عن سابقيها من انقباض وإيلام للنفس.
الشيء الوحيد الذي أكدت عليه السيرة هو هزائم البطل/عبدالعزيز أمام ذاته في أن تحقّق خلاصَها، والذي اعتقد أنه يمكن أن يتحقّق من خلال الهجرة، كما كان يحلم مع صديقيه إلى أثينا أو باريس، وهو ما تحقّق له في برلين دون أن يحقّق خلاصا أو نجاحا.