"رحلة إلى الأوبرا" مشروع حضاري سوري يراهن على الأطفال

كثيرا ما تقاس درجة رقي وتحضر دولة ما، بمقدار ما تقدمه لشريحة الأطفال في المجتمع، كونها شريحة تمثل الحاجة الأكثر حساسية لأي مجتمع، لأنها صورة مستقبله. وإيمانا بهذه الشريحة أطلق منذ أيام في أوبرا دمشق مشروع إبداعي حضاري يخص عالم الأطفال واليافعين، هدفه تعليمهم كيف يزورون دور الأوبرا ويتفاعلون معها بنجاح.
في دراسة قامت بها جهة تطوير عالمية لواحدة من أهم دور الأوبرا في أوروبا كتب مدير المشروع “الأهمية الاجتماعية للأوبرا وسحر ما يحدث على خشبة المسرح يجب أن يُترجما بشكل هادف للسماح للخطاب الفني بالاستمرار… ومؤشر تطوير الأوبرا يتجلى في أمرين: زيادة الأهمية الاجتماعية لها والوصول إلى شريحة أوسع من المجتمع”.
ومعروف أن دور الأوبرا تؤدي وظيفة فنية ثقافية، لكن نظرة أعمق لجوهرها، تؤكد أن لها دورا اجتماعيا هاما تحدثه، فهي ليست مكانا تقدم فيه أشكال الفنون فحسب، بل منبر يجمع الناس وفق منظومات محددة، تتعلق بالعمر والمستوى الاجتماعي والمهني والمالي، وهي أمور تتعلق بالإنسان، بكونه فردا يعيش في مجتمع يتأثر فيه ويؤثر.
ففي الأوبرا يمكن أن تقدم عروض فنية خاصة بالكبار أو بالأطفال أو بمحبي فن محدد أو بذوي الهمم أو الرياضيين أو المزارعين أو غير ذلك من الشرائح الاجتماعية المختلفة، وهذا يعني أن دار الأوبرا منبر فني يتفاعل فيه المجتمع بشكل مكثف ويجمع مكوناته المختلفة أصلا، ودار الأوبرا ستكون أكثر نجاحا وحضورا كلما حققت فعالية فنية أكبر ومتابعة جماهيرية أوسع.
أوبرا دمشق
أندريه معلولي: الجمهور يمكن صناعته تماما مثل أي عمل فني
بدأت أوبرا دمشق “دار الأسد للثقافة والفنون” نشاطها الفني الأول منذ عقدين تقريبا. وقد افتتحت رسميا في شهر مايو من سنة 2004 من خلال مجموعة منوعة من الفعاليات الإبداعية المختلفة في المسرح والموسيقى والغناء والرقص والتشكيل والسينما وغيرها.
ومنذ ذلك التاريخ وعبر ثمانية عشر عاما من العمل المتواصل حققت أوبرا دمشق حضورا لافتا لها على الصعيد المحلي والعربي والعالمي. كانت طبيعة المنتج الثقافي والإبداعي المتميز هدفا سعت إليه الدار للوصول إلى أكبر شريحة من الجمهور، وخلال ثمانية عشر عاما حققت رصيدا جماهيريا وقفزات نوعية كبرى، فبات أمرا متكررا أن تنفد بطاقات حفل موسيقي خلال يوم واحد من بدء بيعها، ومن يدقق في برامج الدار على امتداد مسيرتها سيلحظ أنها كانت متوجهة لكل الطيف الثقافي والإبداعي وليست مكرسة للفن الموسيقي أو الغنائي فحسب.
وقدمت أوبرا دمشق عروضا في السينما، وقد احتضنت دورات مهرجان دمشق السينمائي الدولي ومن خلاله ضيوفا عالميين منهم المخرج العالمي أمير كوستاريسيا وكاترين دونوف والكثير من الأسماء العربية حسين فهمي ونادية الجندي وهند صبري وآخرين، كما قدمت مشاريع مسرحية عربية كبرى فاستضافت غسان مسعود من سوريا والفاضل الجعايبي من تونس وجواد الأسدي من العراق وعادل إمام في مسرحية “البودي غارد” من مصر، كما قدمت كبار المطربين العرب مثل السيدة فيروز في مسرحية “صح النوم” للأخوين رحباني وصفوان بهلوان وعفاف راضي وماجدة الرومي ومارسيل خليفة وغيرهم، وفيها كرم المطرب الكبير صباح فخري.
وعالميا استضافت أوبرا كارمن والمسرحي بيتر بروك وقدمت موسيقى سيمفونية لفرق عالمية كبرى وقدمت العديد من قادة الأوكسترا، كما استضافت قامات أدبية كبرى قدموا فيها نشاطات عديدة كمحمود درويش في الشعر وغزوان زركلي في العزف ونوري رحيباني ونوري إسكندر وسمير كويفاتي وطاهر ماملي في التأليف الموسيقي، وعرضت فيها أعمال فنية في الرسم لأهم فناني الثقافة السورية والعربية، منهم أسعد عرابي وحمود شنتوت وأحمد معلا وموفق مخول وسعد يكن وحسان أبوعياش وأسماء فيومي ومحمد غنوم ونزار صابور وباسم دحدوح وعصام درويش.
ورغم تنوع وتعدد أنشطتها فإنها لم تخصص فعاليات للأطفال، رغم أهمية هذه الشريحة التي تتوجه إليها الآن لاستقطابها.
مشروع طموح
خلال احتفالات أوبرا دمشق قبل أشهر بمناسبة مرور ثمانية عشر عاما على تأسيسها، قال مديرها أندريه معلولي “تعمل الدار على استقطاب كل فئات العاملين في الشأن الثقافي والإبداعي بغية المحافظة عليها، وما نقدمه هو جزء من آمالنا وليس كلها، ونحن نقوم دائما بالبحث عن أفكار جديدة لنكون حاضرين في تقديم المنافسة الجادة والتي تمكننا من الظهور بشكل أقوى”.
وترجمة لذلك الهدف، أطلقت أوبرا دمشق يوم الرابع من أغسطس الجاري مشروعها الفني الذي حمل اسم “رحلة إلى الأوبرا” وهو موجه للأطفال واليافعين، ويهدف إلى تعريفهم بمضمون دار الأوبرا وكيفية التعامل معها. أطلق المشروع تحت رعاية وزيرة الثقافة السورية لبانة مشوح، التي حضرت حفل الافتتاح، وفي أول رحلة تعريفية للأوبرا زارها أطفال مدرسة شمس الصيفية وتعرف أطفالها على تفاصيلها وكيفية العمل بها وحضروا جزءا من تمارين موسيقية فيها.
تبين دار أوبرا دمشق أن مشروع رحلة إلى الأوبرا “يهدف إلى تقريب المسافة بينهم وبين دار الأوبرا من جهة، وترسيخ متعة المشاهدة الجماعية للعروض المباشرة من جهة أخرى. وعبر خطوات عدّة ترسمها لتحقيق أهداف هذا المشروع، بدأت دار الأسد الخطوة الأولى بتخصيص عروض فنية موسيقية ومسرحية وسينمائية للأطفال واليافعين، يكون فيها الطفل المحور إما من خلال عروض تقدمها فرق احترافية تخاطبه، وإما من خلال مشاركته في الأداء على المسرح”.
وكانت البداية مع حفل موسيقي حمل عنوان “رحلة إلى مدينة الأحلام ديزني 2” قدمته أوركسترا النفخيات في معهد صلحي الوادي بالتعاون مع مديرية التأهيل الفني في وزارة الثقافة وبقيادة المايسترو دلامة الشهابي وإشراف مريام سويد، وقدم العرض مجددا يوم السابع من أغسطس، كما تضمن البرنامج تقديم عرض مسرحي بعنوان “المشاعر الخمسة” واستمر عرضه لمدة خمسة أيام.
"رحلة إلى الأوبرا" موجه للأطفال واليافعين، ويهدف إلى تعريفهم بمضمون دار الأوبرا وكيفية التعامل معها
وقدم الأطفال في حفل الافتتاح مجموعة من الأعمال الموسيقية العالمية التي تخص أفلاما شهيرة في الرسوم المتحركة من إنتاجات والت ديزني. فقدمت أعمال “فلة والأقزام السبعة” و”طرزان والملك الأسد” و”ملكة الثلج” وغيرها. ورافق تقديم الموسيقى عرض مشاهد سينمائية على الشاشة أعدت مادتها عن الأفلام العالمية الأصلية نادين الهبل، وشارك في الحفل خمسون طالبا وطالبة من معهد صلحي الوادي للموسيقى مع ثلاثين مدرسا مرافقا.
وعن طبيعة العلاقة بين دار الأوبرا والجمهور وما يمكن أن يكون بينهما من خلال التفاعل الدائم، يقول أندريه معلولي لـ”العرب”، “الفنان يعبر عن ذاته فنيا من خلال إبداعه، وهنالك عنصر هام في ذهنه، هو المتلقي، الذي يعطي مؤشرا حقيقيا على نجاح أي عمل فني، وهو ما يسمى بالتغذية الراجعة. فالقاعدة أن هنالك مرسلا ورسالة ومستقبلا. خلال عملي أفكر دائما بهذه المعادلة، وبحكم عملي كمدير عام لدار أوبرا فأنا أهتم جدا بعنصر الجمهور، لأنه لا يمكن أن تستمر الأوبرا من دونه”.
ويضيف “عشت في سوريا، ومنذ الطفولة أعمل في هذا الحقل الفني، دخلت إلى المعهد العالي للموسيقى وعزفت مع الفرقة الوطنية السيمفونية والفرق الأخرى وعايشت التطور الذي كان يقوم به الراحل صلحي الوادي في سبيل زيادة عدد جمهور هذا المكان، وكان الجمهور دائم التطور كميا وفكريا. أرى أن الجمهور يصنع كما العمل الفني في السينما أو المسرح أو التلفزيون، فالصحيح أن نقدم له في البداية المادة الفنية التي يتقبلها لكونه مبتدئا في حضور الأوبرا، ثم نقدم له موسيقى أعقد قليلا وأكثر زمنا، الجمهور كان يتابع مقطوعة مدتها عشرين دقيقة ثم تطور الأمر لإمكانية أن يتابع سيمفونيا كاملا لمدة ساعة ونصف الساعة ومن دون أي ملل”.
وعن ضرورة أن تكون هنالك أفكار جديدة تطور عمل الأوبرا وتذهب به في اتجاهات جديدة، يتابع “خلال الأزمة خسرنا قطاعات وفرقا وشركات ومبدعين، وكذلك خسرنا جمهورا اشتغل عليه خلال الفترة السابقة، لذلك كان لا بد من تقديم أفكار جديدة تصحح الوضع والخلل، ويجب أن نتجاوز مسألة تحديد من المسؤول عن ذلك، فالمهم الآن هو إيجاد الحل والعمل عليه، فريق الدار وأنا فكرنا بكيفية جذب الجمهور لها، وهو الأمر الذي تحقق بعد أفكار وخطط وعمل. وحققنا بعض النجاحات، الآن باتت الكثير من الحفلات تباع تذاكرها فورا بسبب اندفاع الجمهور على الحضور، وهذا دليل صحة”.
فكرة ومشروع
عن كيفية وجود فكرة رحلة إلى الأوبرا ومن ثم العمل عليها، يوضح معلولي “لا نستطيع أن نستوعب كل جمهور الأوبرا، ولكن باستطاعتنا إيجاد جمهور رديف قادم مستقبلا وهم الأطفال، من هنا ظهرت الفكرة التي كانت بذهني منذ زمن وكنت أبحث عن آلية عمل تنجحها، بدأنا بتجارب بسيطة بغية فهم تجاوب الجمهور معها، بدأنا بأعمال قليلة ومتباعدة. والعمل مع شريحة الأطفال واليافعين صعب ويحتاج لأفكار تخاطبهم ببساطة، ومن الضروري تقديم المادة الموجهة لهم بشكل بسيط وأن تكون صحيحة ومحببة، ومن خلالها أجعل الطفل يعشق ما يسمى بدار الأوبرا. فإن تحقق ذلك فهو سيحافظ عليها وسيكون من الداعمين لها، بذلك نكون قد حضرنا لجيل واعد ثقافيا، ومن خلال هذا التثقيف الفعال، نحصل على جمهور مثقف فنيا نستطيع به أن نطور الفنون، فلا يمكن تطوير أي فن إن لم يكن لديه جمهور عريض يخصه”.
ويتابع “إيماننا بأن الطفل هو صانع المستقبل وبأننا بقينا في هذا الوطن لأننا نحبه ونريد أن نبقى فيه جعلنا نترجم أحلامنا بإطلاق هذا المشروع ‘رحلة إلى الأوبرا’، وهو يحمل نداء إلى هذه الشريحة نقول فيه إنه يجب عليكم أن تزوروا هذا المكان الحضاري، من يتعلق به سيستمر، فنحن نقدم المادة ونترك الباقي على جمهور الأطفال لمن يجذبه الموضوع، فالفكرة الأولى هي في زيارة المكان ومتابعة عدد من الفنون، البعض قد يستهويهم فن على حساب آخر حسب ميولهم، وهذا طبيعي ومبرر، سنقدم مادة فنية جادة مختلفة عما يقدم في الأوساط التجارية، ويمكن للطفل أن يبدأ بالمقارنة والفرز. لا نستطيع إلغاء الفن الرديء ولكن نستطيع أن نضع إلى جانبه الفن الجيد. والطفل ينتقي ما يريده حسب ما تعلم وتعود”.
يرى معلولي في حديثه لـ”العرب” أن العمل بين وزارة الثقافة ودار الأوبرا تكاملي، ولا بد للمجتمع الأهلي من تقديم الجهد الداعم لتحقيق أفضل النتائج، ويقول “عمل وزارة الثقافة شامل لأكثر من شكل فني، فهي من يضع إستراتيجيات العمل الثقافي الكاملة بما يحقق رؤيتها في تطوير المجتمع، وهي المعنية بتحقيق التطور المجتمعي بشكله الأعم، فعملها يتداخل مع عمل كل وزارات الدولة، لأن المجتمع يحتاج للوعي الثقافي، حتى يحقق أهدافه، والفرد يتعامل مع كل وزارات الدولة في مختلف الشرائح الاجتماعية والمهنية والعمرية، فهنالك خطة لوزارة الثقافة تقوم على تنفيذها على كافة الأصعدة والأشكال والشرائح والفنون.
عبر التثقيف الفعال نحصل على جمهور مثقف فنيا نستطيع به أن نطور الفنون التي لا تتطور بلا جمهور
في دار الأوبرا وباعتبارنا جزءا من الخطة وجهة مستقلة إداريا وماليا، ويمكننا العمل على التخصص بشكل أوضح في جانب من الفنون، فإننا نقوم بهذا العمل بما يخدم تفعيل الدور الثقافي المجتمعي من خلال خطط الوزارة الشاملة، وبشكل نتناغم فيه مع الآخرين، فنحن في دار الأوبرا لسنا معنيين بتعليم الأطفال الموسيقى، بل بتعليمهم كيف يحضرون حفلا موسيقيا ويتفاعلون معه”.
ويتابع “ليس هدفنا التعريف بالأوبرا كمكان جامد، بل كيف يتعامل معه الطفل، منذ الدخول إلى المبنى وحتى الخروج منه، بدءا من ارتداء ملابس مناسبة وعدم التعامل بالأجهزة الخلوية والكلام أثناء العرض. هذه المفاهيم هي التي يهمنا تعليمها للأطفال، وفي حال فعلنا ذلك سيكون هدفنا قد تحقق، لأن كل طفل هو مشروع عائلة في المستقبل، وبالتالي فإن نشر هذه الثقافة بين الأطفال يعني نشرها في مجتمع كامل، وهو من سيقوم بعملنا لاحقا، بمعنى أن هذا المشروع مستدام، ويجب ألا يكون حصريا في الأوبرا، لذلك سنعلن عنه دائما حتى يكون لنا شركاء في تنفيذه لأننا بهذه الروح سوف ننجح”.
وعن مشاركة المجتمع الأهلي وتعاون المؤسسات الحكومية معه، يقول معلولي “التنوع الثقافي والمهني ضروري، في وزارة الثقافة هنالك مديرية ثقافة الطفل، وهي التي تهتم بالطفل وفعالياته، ونشاطها قائم على امتداد سوريا وتقوم بنشاطات عديدة ناجحة. هدفنا في الأوبرا يتكامل مع جهدهم في جذب الأطفال للحضور إلى الأوبرا، وهذا يتحقق عندما يجدون فيها مشاريع تخاطبهم”.
ويضيف “عندما أطلق المشروع كان الهدف منه إيجاد خط مواز يدعم هدفها الأساسي وهو جذب أكبر شريحة ممكنة من الجمهور للمتابعة، والهدف الأسمى لنا ليس تقديم مادة فنية ممتعة فحسب، بل أيضا رفع سوية الحالة الثقافية للمجتمع. لذلك سيتجه المشروع لبقية المحافظات، والمجتمع الأهلي له دور فاعل بتفعيل الفكرة. المؤسسات الحكومية ممثلة بوزارة الثقافة تدعم هذا التوجه، والوزيرة تقوم بالاهتمام بشريحة الأطفال، وهي تحرص على الإشراف على الفعاليات التي تخصهم في دمشق والمحافظات، وهذا أمر مبشر وجميل ودليل على رقي في التعامل مع هذه الشريحة، التي يقاس رقي الشعوب من خلال التعامل معها. الجميع معني بالنجاح سواء كانت الدولة أو المجتمع الأهلي، الفرصة متاحة للجميع ليقدم ما لديه من مادة فنية غنية تتوافق مع سوية دار الأوبرا من حيث الجدية والجودة، والتنافس سيكون حارا بين الفرق، لأن وجود التعددية في الظهور يعني المنافسة وبالتالي تقديم كل الطاقات للحصول على التفوق، وهذا ما يعني تطوير الموسيقى والحالة الفنية السورية كاملا، لما فيه تقدم كل أشكال الفنون في سوريا”.