"رحلات علي باي العباسي".. مشاهدات دقيقة من تاريخ أهم العواصم العربية

الرحلات الغربية إلى البلدان العربية قادتها الكثير من الدوافع، منها الاستشراق ومنها البحث عن المغامرة أو الثراء، ومنها غايات مخابراتية، ولعل رحلة دومينجو باديا إي ليبليش واسمه المستعار علي باي بن عثمان العباسي، إلى المغرب مرورا بتونس وليبيا ومنها إلى الشرق، وصولا إلى القاهرة ومكة والقدس ودمشق، تجمع بين دوافع كثيرة مما ذكر، ولكنها تحظى بقيمة فنية عالية.
انطلق الرحالة الإسباني دومينجو باديا إي ليبليش أو علي باي بن عثمان العباسي في رحلته إلى العالم العربي من المغرب حتى الشرق العربي في مرحلة من أخطر مراحل المنطقة سياسيا مع نهايات القرن الـ18 وبدايات القرن الـ19، الفترة التي شهدت التكالب البريطاني – الفرنسي على المنطقة للسيطرة على طريق التجارة مع شرق آسيا، وهذه المذكرات “رحلات علي باي.. إلى مصر والحجاز وفلسطين ودمشق”، التي لم يلتفت إليها سوى القليل من العرب رغم ترجمتها ونشرها في عدد من اللغات الحية، تسجل رؤى ومشاهد لواقع الناس الحياتي والإنساني.
تتمتع المذكرات التي صدرت أخيرا عن مشروع كلمة بأبوظبي بترجمة وتقديم المترجم والشاعر والروائي طلعت شاهين ومراجعة أحمد عبداللطيف، بوصف دقيق لقوافل الحج من القاهرة إلى السويس ثم إلى الحجاز، وتسلط الضوء على تاريخ شبه الجزيرة العربية.
التقلب بين الحكام

تقدم المذكرات وصفا دقيقا للموقع الجغرافي للكعبة المشرفة والحرم الشريف وشكل الأماكن المقدسة، وكذلك قرى ومدن فلسطين وصولا إلى القدس، لترسم معمارها وطوائف سكانها، قبل أن ينتقل إلى دمشق ليصف حدائقها وعمارتها وأسواقها، كذلك أنواع الحيوان والخيول بها. لكنه إذ يفعل ذلك، يولي اهتماما كبيرا للناس والحياة، ليكون المجتمع دائما في بؤرة الضوء، ما يساعدنا على إدراك التغيرات الكبيرة التي حدثت في العديد من الدول التي مر بها.
في تقديمه يشير طلعت شاهين إلى أن دومينجو باديا مواطن إسباني فريد، وضعه القدر أو صنع قدره ليكون من أوائل من قرروا التعلق بهذه المنطقة في وقت كان فيه الشرق حلما رومانسيا للبعض، وطريقا للثروة والشهرة للبعض الآخر. في بلاده لا يُعرف عنه سوى القليل من خلال الوثائق الرسمية، وإن كانت شخصيته ومغامراته التي يشوبها الغموض كانت ولا تزال ملهمة لعدد من الكُتاب الإسبان.
ويتابع أن دومينجو كان موسوعي الاطلاع، إذ تميز بثقافة عالية في علم الفلك، والعمران، والجغرافيا والطب، وكان على معرفة كبيرة بعدد من اللغات مثل: الإنجليزية، والفرنسية، والإسبانية لغته الأم، بالإضافة إلى اللغة العربية. قام بالعديد من الرحلات إلى أوروبا خاصة لندن وباريس، دفعه حسه المغامر إلى أن يتخذ من اعتناق الإسلام ستارا لعمليات تجسسية لصالح القوى الأوروبية الكبرى في ذلك الوقت: بريطانيا وفرنسا، وأن يبدأ رحلته إلى المشرق العربي فتشبه بكل ما يفعله مسلم ملتزم بدءا من الهندام وإكرام اللحية، حتى التفاصيل الدقيقة التي لا تخطر على بال، واختار له اسما عربيا هو علي باي بن عثمان العباسي مدعيا أنه من أحفاد بني العباس الهاربين إلى أوروبا خلال فترة الصرعات المذهبية.
ويشير شاهين إلى أن دومينجو ختن نفسه في لندن على يد طبيب يهودي، ثم اتجه إلى المغرب متنكرا في زيه العربي. عند وصوله إلى المغرب حاول إقناع السلطان المغربي مولاي سليمان بن محمد بقبول الحماية الإسبانية درءا لخصومه الطامعين من الفرنسيين والإنجليز، وعندما فشل في تنفيذ هذا المخطط لجأ إلى دعم بعض الثوار هناك، وحرض على فتنة داخلية تساعد على إضعاف المغرب وتسهل احتلاله على يد الإسبان. وقد كان هذا المخطط مدعوما من قبل ملك إسبانيا كارلوس الرابع.
بتشجيع من الملك كارلوس الرابع الذي خلعه الفرنسيون عن عرشه على إثر فرض الحماية الفرنسية على إسبانيا، عرض مشروعه لاحتلال المغرب على نابليون بونابرت، وكان ذلك في العاشر مايو سنة 1808، لكن الإمبراطور الفرنسي تشكك في نواياه وبعثه مع رسالة توصية إلى شقيقه جوزيف بونابرت حاكم إسبانيا الفعلي نائبا عن عمه للتخلص منه.
◙ خلال طريق هروبه تنقل علي باي من فاس إلى تازة، إلى أن وصل إلى الجزائر ثم مر على شواطئ تونس وليبيا عن طريق إبحاره من مكناس إلى طرابلس
ويقول إن دومينجو بدأ رحلته عام 1803 متوجها إلى المغرب. وصل إلى مرفأ طنجة قادما من ميناء قادس الإسباني الواقع على الساحل الجنوبي لمنطقة الأندلس، حاملا جواز سفر إنجليزي، ليكون المغرب هو بوابة العبور إلى سحر الشرق. مكث علي باي في مراكش عاما كاملا، استطاع خلاله أن يكون مقربا من السلطان مولاي سليمان إلى أن تشككت حاشية سلطان المغرب في نواياه ووشت به إلى السلطان الذي لم يكن مقتنعا بالوشاية فاكتفى بإبعاده عن البلاد مانحا إياه رسالة توصية إلى حكام البلاد التي يمر بها في طريقه لتأدية فريضة الحج؛ إلا أن حاشية سلطان المغرب طاردته خفية وحاولت اغتياله قبيل مغادرته المغرب.
خلال طريق هروبه تنقل علي باي من مدينة إلى أخرى، من فاس إلى تازة، إلى أن وصل إلى الجزائر. ثم مر على شواطئ تونس وليبيا عن طريق إبحاره من مكناس إلى طرابلس وتونس، ثم مارا بقبرص واليونان، وتوجه بعد ذلك إلى الإسكندرية التي وصلها يوم السابع والعشرين أبريل 1806 وبقي فيها شهرا، خالط أهلها ووصفهم متناولا حياتهم ولباسهم ومعمارهم وعاداتهم اليومية، ثم رحل جنوبا عبر فرع رشيد باتجاه القاهرة ليصل إلى ميناء بولاق.
وحظي في القاهرة بصداقات واسعة مع شخصيات مهمة، على رأسهم عمر مكرم نقيب الأشراف وأبرز الشخصيات المصرية في القاهرة. وخلال إقامته هناك، التي امتدت إلى ديسمبر 1806، دارت بينه وبين قيادة نقابة الأشراف حوارات حول مستقبل مصر بعد رحيل الفرنسيين عنها، لكنه وجد من نقيب الأشراف السيد عمر مكرم رفضا للتمرد على الباب العالي في إسطنبول، وأكد له كبار مشايخ القاهرة أنهم في “انتظار فرمان من الباب العالي وبناء عليه يتحركون”.
الاستقرار والاغتيال
يرى شاهين أنه خلال فترة وجوده في القاهرة قبل بدء رحلته إلى مكة المكرمة والحجاز بادعاء الحج، شارك في الاحتفالات الدينية والاجتماعية لسكان المدينة، والتقى أيضا محمد علي باشا حديث الوصول إلى مصر على رأس قوة عسكرية من الجنود الأرناؤوط للإشراف على الأمور فيها بعد خروج الفرنسيين منها. وفي ديسمبر من نفس السنة توجه إلى السويس في طريقه إلى الحجاز لأداء فريضة الحج. عند وصوله إلى مكة المكرمة استقبله هناك شريف مكة الذي قربه إليه وأشركه في مجلسه، فأصبح بذلك أول إسباني غير مسلم يضع قدمه في هذه الأرض المقدسة، بعد الإيطالي لودوفيكو دي فارتيما (الحاج يونس المصري) الذي دخلها في عام 1503، لكن دومينجو باديا كان الأكثر دقة في وصف الموقع الجغرافي للكعبة والحرم الشريف بمكة المكرمة، ورسم شكل الأماكن المقدسة، بعد عودته إلى القاهرة واصل رحلته إلى الشام.
◙ الرحالة المتقلب بين الحكام ترك ذرية تناسلت في الشام وحكايات أسطورية أصبحت وحيا للباحثين عن غرائب حياته
ويضيف “بعد كتابة تلك الرحلة ونشرها في مدينة فالنسيا سنة 1818، رحل إلى دمشق وأقام فيها وتزوج وأنجب تحت اسمه المستعار، ويُقال أنه وقع خلاف بينه وبين أجهزة الاستخبارات الإنجليزية في دمشق، وحسب بعض الروايات أنهم قاموا باغتياله بدس السم في فنجان قهوة تناوله بعد دعوة على العشاء من قبل أحد باشوات دمشق. كان احتساء كأس من القهوة آخر لحظاته، تاركا من خلفه ذرية تناسلت في الشام، وحكايات أسطورية أصبحت وحيا لكثير من الباحثين عن غرائب حياته، وكتب أحد الروائيين الإسبان رواية مستوحاة من حياته”.
ويؤكد شاهين أن دومينجو كان شغوفا بتسجيل كل ما يمر عليه من مشاهدات اجتماعية واقتصادية، فوصف الأسواق، والنساء، والأطفال والأزياء، والمأكولات والنباتات والحيوانات، ووصف الأشجار والحشرات، ورسم صورا لها، كما وضع مخططات لمعظم الأماكن الأثرية التي زارها تكاد تكون وصفا معماريا دقيقا لها. لذلك فإن كتابه “رحلات علي باي”، في رأينا، لا يقل أهمية عن كتاب “وصف مصر” الذي وضعه علماء الحملة الفرنسية، مع الأخذ في الاعتبار أنه كان بمفرده ولم تكن تتبعه كتيبة من العلماء كما هو الحال بالنسبة إلى كتيبة علماء الحملة الفرنسية.
ويختم المترجم بأنه يجب التنبيه إلى أنه استخدم لقب “باي” المستخدم في المغرب العربي كأحد الألقاب العثمانية التي يمنحها الباب العالي، ويقابله في المشرق العربي لقب “بك” في الشام أو “بيه” في مصر، واستخدامنا اللقب “باي” خلال الترجمة بدلا من “بك” أو “بيه” كما ننطقه أو نكتبه في مصر جاء التزاما من جانب المترجم بما خطه “علي باي” بنفسه ورسم اسمه به بخط يده باللغة العربية في مقدمته لكتابه.
مقتطف من المذكرات
أهل مكة
تتمتع النساء في مكة بحرية أكبر من أي مدينة مسلمة أخرى. ربما في زمان الازدهار يكون للأجانب تأثير أكبر. وربما لأن بؤس وفقر السكان أنهى هذا التأثير وصنع هذا الفارق الذي يكاد يصل إلى حد الإهمال. الحقيقة أن البذخ والفقر طرفان متناقضان إلا أنهما يؤثران في الحفاظ على العادات المتوارثة.
وتغطي النساء وجوههن كما في مصر بقماش تطل منه فتحتان للعينين، لكنهما هنا كبيرتان وتسمحان برؤية نصف الوجه، وتترك معظمهن وجوههن مكشوفة بالكامل. ترتدين كلهن عباءة أو شرشفا كبيرا مخططا طوليا وعرضيا بالأزرق والأبيض، تماما مثل نساء الإسكندرية، يضممن تلك العباءات إلى أجسادهن بطريقة مثيرة للإعجاب، لكن عندما تنظر إلى وجوههن تفقد على الفور كل ما تخيلته عنهن من جمال، لأنهن قبيحات بشكل عام ويغلب عليهن اللون الكالح تماما كالرجال، ووجوههن وأيديهن مصبوغة بألوان تبدأ بالأحمر القاتم إلى الأزرق أو الأصفر، في شكل لوحة مرعبة، ولكن العادات ترى أنهن جميلات هكذا. شاهدت بعضهن يضع قرطا يخترق أنوفهن، وأقراطا في الشفة السفلى.
متحررات كثيرا، بل يمكنني القول إنهن جريئات، لا يلتزمن إلى حد ما بالتقاليد الإسلامية، كنت أراهن بشكل متكرر أنهن يتطلعن من النوافذ حاسرات الرأس، وكانت هناك واحدة تعيش في الطابق الأعلى من بيتي دائما ما كانت تراقبني بشكل فاضح ومكشوف كلما صعدت إلى السطح لأقوم بمراقباتي الفلكية، وهذا دفعني إلى الاشتباه أنهن سبب تعاسة وبؤس الرجال المساكين.
كل من يراهن يعتقد أنهن يتمتعن بشيء من الدلال ولهن عيونا جميلة، لكن تلك الوجنات الضامرة وعادة تلوين الوجه باللون الأصفر المائل للاخضرار يجعل وجوههن بشعة. سليطات اللسان ويسرن بدلال، أنوفهن محدبة ولكن أفواههن جميعا كبيرة.
ينقشن على وجوههن وشما لا يمحى ويخططن عيونهن بالكحل الأسود، وأسنانهن صفراء، والشفاه والأيدي والأرجل بلون القرميد الأحمر، تماما كالمصريات، ويستخدمن الأدوات نفسها. ملابسهن مكونة من سروال واسع جدا يصل حتى أسفل أقدامهن يرتدينه على شباشب أو بلغ صفراء، الفقيرات منهن يكون هذا السروال باللون الأزرق، أما الثريات يرتدينه من أقمشة هندية مخططة.
يرتدين أيضا قميصا واسعا بشكل غريب. تخيل كل واحدة ترتدي قطعة قماش مربعة من ستة أقدام عرضا وأكثر من خمسة أقدام ارتفاعا، حسنا، هذا ليس سوى نصف قميص، مع مربع آخر مشابه تماما يشكل النصف الآخر، يلتقيان معا من الأعلى، ويتركن في المنتصف فتحة لمرور الذراع، من خلال الزاويتين السفليتين هناك فتحتان مستديرتان بقدر سبع بوصات، بهذه الطريقة كان يشكل من قبل زاوية يتحول إلى مدخلين، لا يلتقيان إلا عند الزاويتين، ويظل القميص مفتوحا من الأسفل ومن الجانبين من أعلى إلى أسفل.
الثريات منهن يرتدين قمصانا من القماش الخفيف، رقيق كالشاش، لونه بنفسجي كامل أو بخطوط، أقمشة مستوردة من مصر. لارتدائها، يضعنها على الكتفين والمتبقي من القماش يلقينه على الجانبين ويربطنه في الوسط بحزام، ترتدي النساء الثريات على القميص قفطانا هنديا. ولم أشاهد أي امرأة تضع على رأسها شيئا آخر غير المنديل، أما الأيدي والأذرع والسيقان والقدمين تتزين بالأساور والخواتم تماما مثل النساء المسلمات في البلاد الأخرى. تقتصر التجارة في مكة على القوافل التي تأتيها خلال فترات الحج. فقد لاحظت انخفاض أعدادها سنة عن أخرى، لذلك من السهل توقع تدهور مدينة مكة المكرمة في سنوات قليلة.
تصل التجارة الأوروبية إلى هناك عبر ميناء جدة، التي تأتيهم ببضاعة من مصر والبحر الأحمر، من خلال الميناء نفسه تصلهم البضائع الهندية واليمنية، خاصة البن، أما القوافل القادمة من دمشق والبصرة ومصر واليمن تأتي بالبضائع الأخرى، وهكذا يجري التبادل المستمر. ينخفض استهلاك المدينة يوميا، طبقا لانخفاض دخول سكانها. بشكل عام، فإن ثروة سكان البلاد تتكون من ثروات الوهابيين والبدو، أما العرب فهم الأكثر فقرا، الذين لا يمتلكون سوى الجمل وبعض رؤوس الماشية.
يكادون أن يكونوا عرايا، يسكنون الخيام أو الأكواخ ولا يملكون من الأثاث سوى فناجين قهوة مصنوعة من الخشب، في بعض الأحيان إناء معدني صغيرا، وجرة وأوان فخارية، وحصير يستخدمونه كسرير، وحجران يستخدمان في طحن الغلال، وقدر أو اثنان لحفظ الماء، ترى أي شيء يمكنهم أن يقدموه للتجارة لتراه سواء كان إيجابيا أو سلبيا؟ يمكنك أن ترى بينهم بعض الشخصيات التي ترتدي ثيابا مصنوعة من القماش الهندي وشيلان الكشمير أو قماش الستائر.
نساء البدو أو سكان الداخل في البلاد، وإن كان بعضهن من الطبقات العليا، يرتدين عادة ملابس مكونة من قميص واسع من القماش الأزرق، ويضعن على الوجوه خمارا من الشاش وردي اللون، وعباءة كبيرة أو قماشا أسود صوفي، يتحلين بالخواتم والأساور وبعض الحلي الأخرى.