رامي فرح مخرج سوري يعيد الاعتبار إلى اللحظة الإنسانية

من عالم الرقص الاستعراضي قدم رامي فرح نحو اللغة السينمائية التي لم يبتعد بها كثيرا ًعن رشاقة الحركة، التأثير بالصورة هو ذاته التأثير بالجسد حين تكون معادلة التواصل ذكية وفائقة التوغل في نطاقات الذاكرة.
في خضم الحدث السوري المتفجّر مع ربيع العام 2011 كان فرح يحمل آلة التصوير الخاصة به ويطوف على الأماكن والشخوص، كان يرى القصة كما سوف يرويها لاحقاً، وفي مرات كثيرة كان يسهم في كتابتها وصنع أحداث مشاهدها. الآلاف من العدسات ركّزت على التوثيق والتوثيق وحده، لتقول إن شيئاً ما يجري، ونادرون جداً هم الذين رأوا أن ما تمر به المنطقة جزء مما سوف يدرس كثيراً في المستقبل، ويخضع للمشاهدة والمعاينة مراراً، فلم لا يكون ذا سوية فنية عالية ونحن نرصده؟
الجسد بوصفه خالقًا
بطاله هم ممن كانوا مثله يلقون بأنفسهم في أتون الخطر من أجل لقطة، صوروا بأجهزة الموبايل الخاصة بهم حكايات ستصبح، حسبما يقول "جزءاً من أرشيف مفتوح في جامعة بيرمنغهام سيتي. أرشيف لاجئ في طور التكوين"
ولد فرح عام 1980 ودرس الرقص التعبيري في المعهد العالي للفنون المسرحية في دمشق، قبل أن يواصل دراسته لصناعة الأفلام الوثائقية في المعهد العربي للسينما في عمّان، واختار أن يقدّم فور تخرّجه فيلماً عن الجولان السوري المحتل.
وعادة ما يتوق الفنان إلى الانتهاء من العمل الذي يعكف عليه في أسرع وقت ممكن، لكن سرعان ما يجد نفسه غارقا في شغف غير عادي يربطه بالقطعة الحجرية التي بين يديه، وبمرور الوقت يحسّ بأنه لا يريد الوصول إلى لحظة النهاية؛ هذا ما حدث مع فرح الذي اختار لفيلمه بطلاً رئيسياً واحداً، لاحقه لحظة بلحظة، فطالت مدّة إعداد وتصوير الفيلم حتى جاوزت ثماني سنوات، كأنما كان خلالها يتمنى أن يواصل التصوير إلى الأبد.
كان السوريون يرونه وهو يصوّر خلسة، بعيداً عن أعين الرقيب الرهيب، في زوايا دمشق، وفي الحافلات التي تغادر إلى المدن والقرى البعيدة، وفي بستان الممثل والنحات السوري فارس الحلو، بين التماثيل وتحت شجرة رمّان، وقرب جدار طيني يكاد ينهار أو خلف شبّاك يبرز من ضوء خافت.
تعرّض للمواقف ذاتها التي داهمت بطله، وتوارى كما توارى بطله، والتقط أكثر اللحظات حرارة حين تصاعد الوجدان الشعبي في المناطق النائية حيث كان بطله يزور أهالي الضحايا ويعزّيهم ويشارك في تشييع جنازاتهم، وخطّط في الزوايا الساكنة للهروب من قبضة الموت المحتوم، كما فعل بطله تماماً.
صحيح أنه كان خلف الكاميرا، لكنه أيضاً كان واحداً من شخوص الفيلم. ليس ضرورياً أن تظهر بوجهك وجسدك أو تقود الحكاية لتروي سيرتك كما تفعل مدرسة يوسف شاهين، بل يمكنك أن تقدّم وصفة جديدة بكيمياء جديدة.
اختار أيقونته، وتناولها ببساطة الإنسان – المخرج، لا بذوبان المسحور، فكان تعاطيه مع الحلو كما لو كان يكتب ويرسم لا كمَن يوثّق، حتى تراجع التوثيق لصالح اختلاط الحقيقة بالحلم لكن هذه المرة في إبحار غير عادي في عقل البطل والمشاهد معًا.
عُرض فيلمه “كوميدي في المأساة السورية” في مهرجان “إدفا” في أمستردام بهولندا، وللفيلم اسم عربي آخر لا يقل غواية عن الأول “فارس الحلو: حكاية ممثّل خرج عن النصّ”. فيلم لعبته إثارة الدهشة، وهي لعبة نجحت في استدراج النقاد والحضور إلى ذلك الشعور الطاغي بالخوف الذي هيمن على الفيلم، كيف لا وجميع ثواني الشريط كانت تحت ضغط القلق والرعب والاضطرار إلى التصوير السري وسرقة اللقطات.
سرقة اللقطات ورطة إضافية عاشها فرح، فقد يصح ذلك في حكاية مدبّرة سابقاً، لكن الحق في تصوير مدينتك، دمشق، بحرية حق طبيعي، كان فرح محروماً منه؛ فلا البيوت ولا الطبيعة ولا منحنيات الطرق ولا المارّة في الطريق كان مسموحاً له بأن يصوّرهم. كانت تلك المشاهد تحت سوط التحريم وفعل مثل هذا كان سيعتبر جريمة آنذاك.
لحق فرح ببطله حتى غادر سوريا، وبقي يتتبع خطاه في فرنسا، وكثيراً ما سجّل صمته الطويل ونفثات الدخان التي تحيط به في هنيهات بدت يائسة، غير أنها بقيت تتبدّل حين يخالطها التهكّم على الحال. ومع الحلو كان فيلم فرح يطوف على سوريين بقيت ظلالهم تمارس تأثيرها مثل المفكر المعارض ميشيل كيلو وشيخ المخرجين السوريين هيثم حقي والمغني الملتزم سميح شقير والممثلة سلافة عويشق.
الفيلم لا يروي قصة الحلو وحدها، إنما يروي أيضا قصة المكان الفريد الذي حاول اقتناصه عندما اشترى أرضاً وحوّل خزان المياه فيها إلى مسرح وحوّل التراب إلى مدرجات وأقام معرضاً للمنحوتات والأعمال الفنية، أسماه “البستان” وكان هدفه أن يحوّله إلى واحة من الحرية في مناخ ملبّد بالرماد.
لنا ذاكرتنا

فيلمه التجريبي الجديد "لنا ذاكرتنا .." نال عليه فرح الجائزة الأولى في مسابقة حقوق الإنسان في مهرجان "دوكو فيست" في كوسوفو
في قاعة مركز جورج بومبيدو بباريس عرض فرح فيلمه الجديد “لنا ذاكرتنا ..”، هذه المرة سيقدّم التجريب لا التوثيق الواقعي، متجاسراً أكثر على كسر الزمن، وعلى خرق الحاجز بين المسرح والسينما.
نال هذا الفيلم الجائزة الأولى في مسابقة حقوق الإنسان في مهرجان “دوكو فيست” في كوسوفو، وكان قد وضع على عاتقه نبش الذاكرة التي لم يعتبرها قد ماتت يوماً، وصنع فيلمه بالاستناد إلى شخوص من درعا عاشت خطر الموت والمغامرة وعبرت منها إلى خشبة فرح وكادره.
طاف الفيلم على العالم، وعرض في مهرجان “أيام فلسطين السينمائية” الدولي بدورته الثامنة، وكانت ملفاته أكثر حساسية مما يجري تداوله في الأعمال الفنية المعنية بالقصية السورية؛ كان يبحث في ما قبل وصول الإسلاميين والمال الخارجي. هناك حيث تشكّل الوعي من براءة وبساطة الإنسان، لا من السياسة ولا من المشاريع الأيديولوجية، فلم يكن هناك سبب لاستمرار الخوف بعد الآن.
أبطاله، راني المسالمة وعدي الطالب ويزن دراج، هم أيضاً ممن كانوا مثله يلقون بأنفسهم في أتون الخطر من أجل لقطة، وبهؤلاء خلق فرح بيئة قصدية من خشبة مسرحٍ وشاشة كبيرة قائمة على طبيعة حكايته ذاتها، فكل شيء كان عفوياً في البدء، وسيكون كذلك الآن، وأبطاله صوروا بأجهزة الموبايل الخاصة بهم حكايات ستصبح -حسب فرح- “جزءاً من أرشيف مفتوح في جامعة بيرمنغهام سيتي. أرشيف لاجئ في طور التكوين”. ولكن هناك غيرهم صوروا أيضاً بعدساتهم ما تمّ طيّه ونسيانه مثلما حدث مع أصحاب تلك العدسات أثناء التصوير، لقد قتلوا وتلاشت ذكرياتهم.
صحيح أن فرح يتعمّد العودة دوماً إلى البدايات، إلا أن عودته تلك ليست هروباً من الحاضر، ولا حتى محاولة لتفسيره، ولا حنيناً إلى الماضي، بل تبدو إصراراً على القول إن الزمن ينطوي مثل قوس ولا يزول أبداً.
ظلال القناصين
تحت ظلال القناصين في شوارع درعا، وعلى طريق السد، عبرت الكاميرات كما يعبر مشاهدو فرح اليوم أثناء متابعة فيلمه، وعندها يسأل الناقد والكاتب السوري فارس الذهبي عن ذلك قائلاً “هل يجب على المشاهد غير السوري الذي يشاهد كل تلك المآسي أن يقول في قرارة نفسه: حسناً لقد نجونا لأننا لم نفعل مثلهم؟”.
ويضيف الذهبي ”كانت عملية كسر الإيهام التي قام بها المخرج كفيلة بنفي التطهّر تماماً، فهو يذكرنا في كل لحظة بأن ما نراه ليس فيديوهات قديمة وإنما مأساة حاضرة، وبأننا لا يجب علينا الانغماس في المأساة وجلد الذات، وبالتالي ما أهمية تلك المادة الفيلمية في حضور الأبطال أنفسهم؟ ما هو الأهم التوثيق أم الذاكرة؟ التسجيل أم الروي؟ الإيهام أم كسر الإيهام؟”.
وتحصّل فيلم فرح هذا أيضاً على جائزة مهرجان كوبنهاغن الدولي للأفلام الوثائقية، لتضاف إلى دائرة الاهتمام التي تصادفها أعماله، ولا نجد هذا متكرراً حيال الفيلم التسجيلي في هذه الأيام.
ويقول فرح إن من كان يلاحقه في أعماله هو ذلك الوجه المختفي خلف الأقنعة التي روّجتها الروايات المختلفة، وجه الناس الحقيقي الذي يعرفه جيداً، وجه سيبقى يطارده في الواقع لأنه معشّش في خياله ومتشبث بالبقاء.
بالخطاب الأكثر تقدّماً الذي تعرضه الفنون -بما هي عليه من لغة تفرض التحدي في الجدّة والتطور- يبدو أنه من الممكن للسوريين النجاة من الطرق المسدودة التي وصلوا إليها، في بلادهم وخارجها؛ فالفنون بإمكانها أن تقطر الوعي نحو المستقبل أكثر مما تفعل السياسة بتعثّرها ولعثمتها.