رابح بن شريف من مدرجات الجامعة وأروقة السياسة إلى بائع للخضار

دفع طلاقه مع الممارسة السياسية والحزبية، خاصة بعد تقاعده من الجامعة لممارسة حرفة بيع الخضار في الأسواق الشعبية، وأزمة الجفاف التي تضرب البلاد في السنوات الأخيرة، وعودة الحديث عن استغلال المياه الجوفية في عمق الصحراء، بالأستاذ والسياسي رابح بن شريف إلى الواجهة وإلى صدارة الجدل، لأن فكرة الاستنجاد بتلك المياه وإنجاز بحيرة الصحراء هو الذي أطلقها في مطلع تسعينات القرن الماضي.
عند سؤاله من طرف منشط برنامج “في لقاء الصحافة”، الذي كان ينتجه التلفزيون الجزائري الحكومي بعد قرار الانفتاح السياسي والإعلامي، عن الشق الاقتصادي في برنامج الحزب السياسي الذي أسسه آنذاك (الحزب الوطني للتضامن والتنمية)، تحدث رابح بن شريف عن مشروع بحيرة الصحراء لتكون قاعدة لانطلاق نموذج زراعي واقتصادي وتوفير المياه في مختلف ربوع البلاد.
لكن الشارع الجزائري حوّل الفكرة إلى “نكتة”، وأُطلقت حملة من التنمر والازدراء بالرجل دامت عدة سنوات، قبل أن تثبت الأيام والتطورات أن مشروع رابح بن شريف هو ملاذ الجزائر الوحيد لمواجهة موجة الجفاف المستعصية، وتوسيع زراعة المحاصيل الحيوية، وأن إدراك جدوى الفكرة جاء متأخرا كثيرا، فبعد أكثر من ثلاثة عقود يتذكر الجميع مشروع “بحيرة الصحراء”، ويتحسر على العقول التي تهوى التنكيت في مكان الجد.
رابح بن شريف، تقاعد من الجامعة، وطلّق العمل الحزبي بعد انقلاب أبيض نفذ ضده، وتوجه إلى بيع الخضار في الأسواق الشعبية، مفضلا ضوضاء العامة على النضال السياسي والعلمي الموبوء، علّه يوفر لنفسه حياة مريحة من ضغوط ونكد الوسط النخبوي، ليكتشف الجزائريون أخيرا ماذا ضيعوا وماذا ضاع منهم، بسبب مناخ شعبي ورسمي لا مجال فيه للإبداع.
خيّمت حالة من الحسرة والندم سواء لدى الأجيال التي عاصرته أو التي عرفته حديثا، بعد ظهور الرجل في تسجيلات تم تداولها على نطاق واسع في شبكات التواصل الاجتماعي، وكما “نُكّت” عليه في التسعينات، أحيط الرجل بموجة تعاطف وتضامن لأنّ مكانه الحقيقي مراكز البحث العلمي والتنظير السياسي وليس بيع الخضار في الأسواق.
بعد ثلاثة عقود
ظاهرة استقالة النخبة من المشهد العام بالجزائر في توسّع مطّرد، بسبب المناخ الموبوء الذي لم يعد يتيح مجالا للإنتاج والإبداع، ففي السنوات القليلة الأخيرة، انسحب الكثير من الأكاديميين والسياسيين من مواقعهم لأسباب مختلفة، لكنها تجتمع في غياب الفضاء المناسب للتعبير والنقاش والحر.
انسحاب رابح بن شريف ليس وليد اليوم، وتلك الهيئة والبزة التي ظهر بهما في مواقع التواصل الاجتماعي هي التي أثارت انتباه الرأي العام له، وقد انسحب عالم الاجتماعي السياسي ناصر جابي من الجامعة، وانسحب الأديب والروائي عزالدين ميهوبي من الشأن السياسي وتفرّغ للتأليف فقط، وتوجّه إعلاميون إلى مهام أخرى لقناعة ترسّخت لديهم بأن المحيط السائد لم يعد محيطهم.
وأخيرا جاء الاعتراف بالمكانة العلمية للرجل وبأفكاره التي استشرفت التطورات المناخية والاقتصادية، فلو وجد مشروع “بحيرة الصحراء” طريقه للتنفيذ لكانت الجزائر الآن في منأى عن مواجهة صعبة ومعقدة لموجة الجفاف وتحقيق الأمن الغذائي، لأنّ ما يجري التفكير والتخطيط له لاستغلال المياه الجوفية في عمق الصحراء، كان فكرة طرحت منذ أكثر من ثلاثة عقود.
وإذ استكثرت السلطة وأحزابها القوية منذ ذلك الزمن، على أن ينافسها حزب سياسي بسيط في طرح البدائل والحلول، فإنه كان الأجدر بها فتح أبواب البحث أمام الرجل، فهو من الرعيل الأول في تخصص البيوتكنولوجيا بالبلاد، وكان بإمكانه طرح مشاريع أخرى بدل دفعه إلى التقاعد من الجامعة بعدما طلّق العمل الحزبي والسياسي.
ولا يبدو أن موجة التعاطف والتضامن مع أوّل بروفسور في البيوتكنولوجيا في الجزائر، والتعبير عن الأسف والحسرة على الوضع المادي الصعب الذي يعاني منه، سيعيده أو يعيد النخبة التي قرّرت الاستقالة من الشأن العام والتفرغ لشؤونها الخاصة، لأن المناخ السائد بات مثبطا للعزائم ومنفّرا من خوض أيّ تجربة، لاسيما في ظل بسط الرداءة والتفاهة لنفسها في مفاصل المؤسسات والهيئات المختلفة.
اكتشف الجزائريون رابح بن شريف شابا أنيقا ومحدثا بسيطا وعقلا مفكرا في مطلع تسعينات القرن الماضي حين قررت البلاد خوض تجربة التعددية السياسية والإعلامية، فخاض هو تجربة تأسيس الحزب الوطني للتضامن والتنمية، على أمل تقديم بديل للوضع القائم وحلول للمشكلات المتراكمة، فشارك الحزب في الانتخابات النيابية وفاز بعدد من المقاعد، لكن “الغوغاء” كانت تفضل دائما الخطاب الشعبوي والشعارات الجوفاء.
تباينت آراء المدونين في شبكات التواصل الاجتماعي حول أسباب وصول بن شريف إلى هذه الحالة، حيث اعتبر البعض أن ذلك ناتج عن المآل الذي ينتظر السياسيين والأكاديميين الذين يعارضون السلطة، بينما رأى آخرون أن بن شريف اختار العيش بهذه الطريقة وأن ذلك لا يقلل من شأنه.
وكتب الناشط، خيرالدين مراح مستغرباً:
وكتب رشيد منير:
وقال أيوب مرابط:
وكتب الباحث والمؤرخ محمد آرزقي فراد، على صفحته الرسمية في فيسبوك، “ما أكثر العقول التي أضاعتها الرداءة السياسية في الجزائر في مجالات كثيرة.. من هذه العقول السيد رابح بن شريف (خبير في الفلاحة)، الذي تحدث كثيرا قبل 30 سنة عن مشروع استغلال المياه الباطنية الموجودة في صحرائنا (60 ألف مليار متر مكعب) من أجل تعميم الزراعة المسقية فيها.. بعد مرور عقود من الزمن، ها هي الأيام تؤكد صواب مشروعه الزراعي. لذا فهو جدير بأن يعاد له الاعتبار ولو رمزيا”.
الآن حين حاصر الجفاف ربوع البلاد وبات يهدد استقرار المجتمع، يعود الجميع لاستذكار رابح بن شريف، في تلك الحلقة من برنامج “في لقاء الصحافة”، للإعلامي مراد شبين، لما تحدث عن “إمكانية إقامة بحر اصطناعي من خلال استغلال المياه الجوفية، وأن الصحراء الجزائرية تتوفر على طاقة هائلة من المياه الجوفية تقدر بحوالي 66 ألف مليار متر مكعب، وأن المشروع سيسهم في جلب السياح إلى البلاد، كما سيسمح بتشغيل الأيادي العاملة”.
تهريج مجتمعي
أثبتت الأيام أن الكلام لم يكن من قبيل الخطاب السياسي الأجوف، بعدما أكدت دراسة تحليلية أجراها مركز “واتر فاناك” نهاية العام 2022 أن “الجزائر تقع فوق نظام طبقات المياه الجوفية في الصحراء الشمالية الغربية، وهو احتياطي ضخم من المياه الجوفية الأحفورية العابرة للحدود، وأن الموارد المائية في هذا النظام محصورة ضمن خزانين متداخلين رئيسيين، وهما الحوض المتداخل القاري وحوض المركب النهائي، وكلاهما يحتويان على حوالي 66 ألف مليار متر مكعب من المياه الجوفية”.
ومنذ أشهر قليلة فقط اتفقت حكومات الجزائر وليبيا وتونس، على وضع آليات لاستكشاف واستغلال المياه الجوفية في المنطقة الحدودية التي تربط البلدان الثلاثة، تحت ضغط موجة الجفاف التي تهدد بشدة دول المنطقة عموما، وثبت مرة أخرى أن مصير الجزائر مرتبط بمخزون المياه الجوفية وبمشروع مماثل، ويتأكد أن رابح بن شريف لم يكن يتحدث من فراغ وبحوزته معطيات وبيانات سبقت معاصريه، وأن أكثر من ثلاثة عقود ضاعت من الجزائر لتنفيذ مشروع إستراتيجي يكفل لها الأمن المائي والغذائي في عصر لا تستبعد فيه اندلاع حروب الماء والغذاء.
ومع هذا الاعتراف والاعتذار الجماعي من الرجل يثبت أن التعاليق التهكمية واتهامه بالتهريج السياسي منذ عقود، جدير بها أن تلحق بكل هؤلاء، لأن الذي كان يتحدث بصدق وعلم هو رابح بن شريف، وأما الآخرون فهم المهرجون والغوغائيون، فبدل الانخراط في مشروع إستراتيجي ملموس، توجه البعض إلى حرب أهلية، بين إسلاميين يريدون إقامة “شرع الله”، وبين مؤسسات رسمية خافت على الدولة من الشعب.
وكتب الإعلامي محمد دلومي “حينما طرح بن شريف مشروع بحيرة الصحراء خلال حصة ‘لقاء الصحافة’ حين كانت القناة التلفزيونية الرسمية وحدها في الميدان لا شريك لها بداية التسعينات، حينها الكل شبع ضحكا على الفكرة من منشط الحصة وباقي الشلة التي كانت معه إلى باقي الجمهور خلف الشاشة ومسؤولين ومثقفين، بل اعتقد البعض أن بن شريف مجرد رجل مرفوع عنه القلم (مجنون)”.
وأضاف “لكن اليوم وبعد هذا الجفاف، اكتشفنا أننا نحن من كان وما زال مرفوعا عنا القلم، ولم يكن ذلك الرجل الذي كان لديه مشروع حلم، رجل جاء في التوقيت الخطأ ليحدّث الناس الخطأ عن مشروع حقيقي كان يمكن تجسيده لو فقط وجد بعضا من ذوي العقل يستمعون لوجهة نظره منذ قرابة الثلاثين عاما، وينظرون بعقل إلى تلك الخارطة التي كانت تحمل المشروع، ولو فعلوا لما كنا اليوم في أزمة عطش وجفاف وحرب (خزانات)”.
وتابع “منذ أن تحدث السيد بن شريف ابن الشرق الجزائري عن مشروعه وسخر الجميع منه، اختفى من المشهد السياسي ولم يعد له ولا لحزبه ذكر بين الناس، ربما لأن الرجل أدرك أنه بين قوم لا يمكنهم أن يفهموا فكرة بسيطة لإنجاز بحيرة في عمق الصحراء، فما بالهم لو طرحت عليهم فكرة عن الأقمار الصناعية وحرب النجوم”.