رئيس الوزراء العراقي يفتح ملف المخفيين قسريا

مبادرة رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي بفتح ملف المغيّبين والمخفيين قسريا بعد فترة وجيزة من تسلّمه مهامّ منصبه، تكشف عن أسلوبه الجريء في معالجة مختلف القضايا والملفات المركونة على الرفوف منذ سنوات، والتي تحاشى سلفاه حيدر العبادي وعادل عبدالمهدي فتحها لتجنّب ما وراءها من مشاكل وتعقيدات.
بغداد- فتح رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي ملف المغيّبين والمخفيين قسريا ليشرع بذلك في معالجة قضية معقّدة ذات خلفيات سياسية وطائفية، وغير منفصلة عن تحقيق المصالحة الداخلية المطلوبة في العراق لتحقيق سلمه الداخلية وتعزيز استقراره.
وأمر الكاظمي، الأحد، وزارة الداخلية بالإسراع في كشف مصير الآلاف من هؤلاء المخفيين ومعظمهم من أبناء الطائفة السنية، حيث فُقد أثرهم خلال سنوات الحرب ضد تنظيم داعش وما يزال مصير أغلبهم مجهولا إلى اليوم.
ورغم المطالبات الكثيرة لحكومتي رئيسي الوزراء السابقين حيدر العبادي وعادل عبدالمهدي بحسم هذه القضية، فقد ظل الملفّ عصيا عن المعالجة بسبب ما يُعتقد أنّه ضغوط مسلّطة من جهات نافذة قد تكون متورطة بشكل أو بآخر في القضية، ومن بين هؤلاء قادة كبار للميليشيات الشيعية المسؤولة بشكل رئيسي عن اعتقال الآلاف خارج نطاق القانون وإخفائهم قسريا.
وذكر بيان صدر، الأحد، عن الحكومة العراقية أن الكاظمي “وجّه بضرورة الإسراع بالكشف عن مصير المخطوفين والمغيبين”. وأضاف البيان أنّ “ذلك جاء خلال زيارته الأحد لمقر وزارة الداخلية ولقائه الوزير عثمان الغانمي والمسؤولين في الوزارة”.
ومنذ توليه منصب رئيس الوزراء قبل نحو أسبوع، اتخذ الكاظمي العديد من القرارات التي تخص ملف حقوق الإنسان، بينها الإفراج عن كافة معتقلي المظاهرات، والتحقيق في ما إذا كانت هناك سجون سرية في البلاد.
وفُقد أثر الآلاف من العراقيين خلال ثلاث سنوات من الحرب الطاحنة بين القوات العراقية ومسلحي تنظيم داعش بين عامي 2014 و2017 في المناطق ذات الأكثرية السنية بشمال وغرب البلاد.
ووجهت أطراف سياسية عراقية ومنظمات دولية معنية بحقوق الإنسان، فضلا عن سكان محليين، أصابع الاتهام إلى فصائل شيعية مقربة من إيران بالوقوف وراء الكثير من عمليات الإخفاء القسري.
ويقول هؤلاء إنّ ميليشيات الحشد الشعبي التي اشتركت على نطاق واسع في الحرب ضدّ تنظيم داعش احتجزت الآلاف من الشبان والرجال السنة عقب استعادة مناطق شمالي وغربي البلاد من التنظيم واقتادتهم إلى جهات مجهولة ومن ثم انقطعت أخبارهم حتى الآن.
ولا توجد أرقام رسمية لعدد المغيبين قسريا في العراق، غير أن المرصد العراقي لحقوق الإنسان كشف في بداية شهر سبتمبر 2019 عن “وجود ما يقرب من 25 ألف عراقي مفقود في محافظات نينوى وصلاح الدين والأنبار”.
وتتحدّث مصادر عراقية عن امتلاك جهات غير حكومية سجونا سرية منتشرة في أنحاء متفرّقة من العراق.
ولا تعتبر ظاهرة الاعتقال خارج نطاق القانون والإخفاء القسري جديدة على العراق خلال حقبة ما بعد سنة 2003 مع انتشار الميليشيات في البلد، لكنّ تفاقم الظاهرة ارتبط بشكل استثنائي بالحرب التي دارت ضدّ تنظيم داعش بمشاركة العشرات من الميليشيات التي لم يقتصر دورها على القتال بل تعدّته إلى اعتقال المشتبه بهم والتحقيق معهم. وغالبا ما تكون أعداد كبيرة من الذكور بين سن المراهقة وعتبة الشيخوخة موضع اشتباه بالانتماء لتنظيم داعش إلى أن يثبتوا عكس ذلك.
ولا يعرف أهالي المختطفين والمغيّبين مصير أبنائهم، ويلجؤون في غياب الوسائل القانونية وتدخّل الدولة إلى التوسّط لدى الميليشيات عن طريق نواب وسياسيين وشيوخ عشائر على صلة بها لاستقاء بعض المعلومات والتأكّد على الأقل من أنّ أقاربهم ما يزالون على قيد الحياة.
ويروي أحد سكان منطقة جرف الصخر بجنوب بغداد، وهي من أولى المناطق التي شهدت قتال الميليشيات ضدّ تنظيم داعش كيف توصّلت عشيرته بوساطة نائب شيعي في البرلمان العراقي إلى معلومات بشأن أربعة شبّان من أقاربه فقدوا منذ سنة 2014، وبيّنت المعلومات أنهم على قيد الحياة وموجودون في سجن يقع داخل قبو تحت فيلاّ سكنية بضواحي العاصمة بغداد وتعود ملكيتها لأحد كبار قادة الميليشيات الشيعية.
وفي مختلف المناطق التي شهدت مشاركة تلك الميليشيات في الحرب ضدّ داعش وآخرها مناطق محافظة نينوى ومركزها مدينة الموصل، مرورا بديالى وصلاح الدين والأنبار، تتعدّد شهادات الأهالي بشأن اختفاء ذويهم، أو مقتلهم أثناء التحقيق معهم من قبل الميليشيات.
25 ألفا العدد التقريبي غير الرسمي للمغيبين والمخفيين قسريا في محافظات نينوى وصلاح الدين والأنبار
ففي مدينة الفلوجة وحدها، وهي مدينة كبيرة تقع ضمن محافظة الأنبار بغرب العراق وينتمي سكانها للطائفة السنية، سبق للأمم المتحدة أن أعلنت عن فقدان المئات من الرجال والأطفال بعد احتجازهم من قبل ميليشيات الحشد الشعبي خلال معركة استعادة المدينة من داعش.
ولا يعتبر المحتجزون لدى القوات المسلّحة أفضل حالا من الأسرى بأيدي الميليشيات حيث يفتقر العراق لمراكز الاحتجاز المناسبة، كما يفتقر لوسائل التحقيق المهني الكفيلة بالتمييز بين الأبرياء والمتورّطين فعلا في الانتماء لداعش والقتال إلى جانبه.
وباعتبار الغالبية العظمى من المحتجَزين والمغيّبين من أبناء الطائفة السنية فيما غالبية المحتجِزين من الشيعة، فإن القضية تمثّل سببا آخر لمزيد رفع مستوى التوتر الطائفي في العراق، الأمر الذي يلقي بظلاله على مستقبل البلد ووحدة مجتمعه.
ولم تقتصر جرائم الاختطاف والإخفاء القسري في العراق على حقبة داعش، بل شملت أيضا فترة الانتفاضة الشعبية العارمة التي انطلقت في شهر أكتوبر الماضي واستمرت لعدّة أشهر شاركت خلالها الميليشيات الشيعية في قمع المحتجّين وقامت باختطاف العديد منهم ولا يزال مصير الكثيرين من هؤلاء المختطفين مجهولا إلى اليوم.
ويحذّر ساسة وقادة رأي عراقيون من أنّ ترك ملف المغيّبين دون معالجة جادة يبقي على التوتّر الطائفي داخل المجتمع ويمنع تجاوز حقبة حرب داعش المأساوية وطيّ صفحتها.
وتعلّق آمال على أن يكون مصطفى الكاظمي أقدر من سابقيه العبادي وعبدالمهدي على حلّ قضية المغيبين والمخفيين قسريا، كونه بدا أكثر تحرّرا من ضغوط الميليشيات وأقدر على مواجهتها ولجمها.