رئيس التحرير.. اصطناع الغضب ليكون أكثر ترؤسا

قبل عشر سنوات لم أجد لبورتريه، كتبته في صفحة كاملة في “الأهرام المسائي” عن مكرم محمد أحمد، عنوانا أوجز وأصدق من “ابتسم يا نقيب”. يلخص الرجل بدقة نصف صورة منصب رئيس التحرير في مصر، ويكمل كل زملائه من رؤساء التحرير النصف الآخر.
يرجح مكرم، بدأبه إلى الآن، إذا وُضع وحده في كفة ميزان، كفّته الثانية تزدحم وتخفّ برؤساء التحرير الذين ينتمون إلى جيله وجيل أحفاده. في سن الرابعة والثمانين لا يزال يقظا، يشارك في أنشطة صحافية من موقع المشاغب الجاهز بالمعلومات فيناقش، ويكتب مقالا يوميا ولا تشغل نفسك بمضمونه. كما يحتفظ بعُدّة رؤساء التحرير من الغضب المصطنع والعبوس المستعار كلما كانوا في مناصبهم، فإذا أخرجوا منها تخلوا عن الجدية وافتعال الغضب، وعن الكتابة أيضا رغم السعة.
نشرتُ مقال “ابتسم يا نقيب” في 15 ديسمبر 2009، بعد أكثر من عشرين عاما على رؤية مكرم محمد أحمد، للمرة الأولى خارجا من دار الهلال وهو رئيس مجلس إدارتها ورئيس تحرير مجلة “المصور”. لم يرني على ما يبدو، حتى لو انتبه إليّ فلن يتصور أن هذا الطالب سيتولى عام 2014 رئاسة تحرير مجلة “الهلال”. فوجئت برجل الأمن عند بوابة دار الهلال يهبّ واقفا، وسائق السيارة يفتح الباب، وهناك من يتبع هذا الغاضب غضبا وجوديا لعله يلازمه منذ كان في المهد صبيا. ولم أبال به، ولم أنتظر الصعود إلى رجاء النقاش لأسأله عمّن يكون الرجل المهم؟ واستفسرت من مسؤول الاستعلامات فقال “الريّس”. واللقب في عالم الصحافة يعني رئيس مجلس الإدارة أو رئيس التحرير، أو أي مسؤول أكبر من المتكلم. ولم يكن ضيوف رجاء النقاش ومحبوه ينادونه “الريّس”. وأربكني ما سمعت، فلا أدري هل “الريّس” اسم أم صفة؟ ولأنني لم أكن أعرف أي “ريّس” إلا رئيس الجمهورية، ولم أعهد أن يسمي مصري ابنه “الريّس”، فقد سألت: “ريّس من؟”. فأجاب الرجل “الأستاذ مكرم يا أخي!”.
الهالات التي يحيط بها رؤساء التحرير أنفسهم تذكرني بشخصية عميل وكالة الاستخبارات المركزية فرانك (كلينت إيستوود)، في فيلم “في خط النار”. كان فرانك يجري بمحاذاة الإطار الأيمن الأمامي لسيارة الرئيس الأميركي، ومعه ثلاثة عملاء من الحرس الخاص بالرئيس، كل حارس يجري بمحاذاة إطار لسيارة مغلقة النوافذ. وفي رأي فرانك أن سيكولوجية هذا التقليد “أن يزداد الرئيس ترؤسا”. ولم ينفرد الرئيس الأميركي، في الفيلم أو الواقع، بهذا الطقس الاستعراضي الذي يُخضع الحرس للهاث والتوتر، ففي دار التحرير التي تصدر صحيفة الجمهورية كان سمير رجب على قمة المؤسسة، وكان حسني مبارك يحبه ويقرّبه، ويتباهى بأنه إذا كان محمد حسنين هيكل يكتب مقالا في الأسبوع، فإن سمير رجب يكتب مقالا يوميا.
وباستثناء رئيس التحرير أصيل الموهبة (هيكل، أحمد بهاءالدين، فتحي غانم، عبدالرحمن الشرقاوي، إحسان عبدالقدوس، محمد التابعي على سبيل المثال) لا تحتفظ الذاكرة بشيء من آثار رؤساء التحرير ورؤساء مجالس الإدارة ممن لم يقنعوا بمغانم المنصب، وتجاوزوا حدود الوظيفة إلى تقمص دور المفكر الموسوعي، ونشروا مقالات يومية في الشؤون السياسية الدولية والإقليمية، والأزمات الاقتصادية، وإدمان المخدرات، والتطرف الديني، والقضايا الأسرية والعاطفية، بفضل حفنة من المتخصصين في هذه المجالات يجزل لهم العطاء، ثم تقوم سرية متخصصة في شؤون تصنيف المقالات بجمعها وتصحيحها وتبويبها، وإعدادها كمشاريع كتب تصدرها المؤسسة نفسها، أو تنشرها مؤسسة حكومية مثل الهيئة العامة للكتاب التي منحت، في معرض القاهرة للكتاب، جائزة أفضل كتاب سنوي لمؤلفات ساذجة لرؤساء تحرير منهم مرسي عطاالله وجلال دويدار وسمير رجب الذي يوضع اسمه على أغلفة بضعة كتب منها “نبضات إنسانية” و“مصر في عيون العالم” و“الحياة إنسان” و“بصمات على وجدان البشر” و”غدا موقف جديد” و“الكلمة أمانة” و“خطوط فاصلة”. مؤلفات لو كتبها الرئيس الأميركي ما احتاج إلى لهاث العميل فرانك في فيلم “في خط النار”؛ لكي يزداد شعوره بهالة الترؤس، ولكن سمير رجب جمع الأمرين، فكان يستقل سيارته، بعد أن يغلقوا من أجله الشارع، استعدادا لموكبه مثل رئيس الوزراء، ويسرع سائقه بالسيارة، وتتبعها سيارة الحراسة مفتوحة الأبواب، ويحيط بها حرس شداد على طريقة كلينت إيستوود، ثم يقفزون في السيارة المسرعة وهي تلاحق سيارة “الريس”.
حين كتبت “ابتسم يا نقيب” كان مكرم محمد أحمد يقترب من عيد ميلاده الماسي، متقاعدا من المناصب باستثناء منصب نقيب الصحافيين بالانتخاب، وقد ظل الوحيد المحتفظ بالجدية والغضب والأعصاب العارية الداعية للانقضاض، ولم تؤثر فيه ثورة عاصفة ولا ثورة مضادة. وكان الآخرون من رفاقه المتقاعدين يستعيدون وجوههم الطبيعية القديمة بعد نزع القناع الرئاسي الغاضب، وزوال الطارئ عليهم من “مواهب” الكتابة، فلم يضبطوا في وفرة فراغ التقاعد بتأليف الكتب، وهم الذين كانت تنشر بأسمائهم مقالات يومية في وقت لا تسمح لهم الانشغالات بالكتابة ولا القراءة إلا ما تفرضه طبيعة العمل. ومن جرب هموم رئاسة التحرير يعرف أن كتابة مقال أسبوعي عبء كبير.
وفي أغلب النماذج المصرية، باستثناءات نادرة تؤكد هذه القاعدة، لا يطيق رئيس التحرير روحه ويتفادى الجميع غضبه، إذ يدخل المؤسسة متجهما، ويريد الوصول من باب السيارة إلى مكتبه محتفظا بملامح درّبها على الفظاظة، وتجاهل تحية موظفي الاستقبال. وقبل أن يستريح في مقعده، يقدم إليه الموظف المسكين فنجان القهوة وكوب العصير، لا أدري بأيهما يبدأ؟ وربما ينتهي العمل من دون أن يمس أيا منهما، ولكن وجودهما وتغييرهما كل ساعة من طقوس “الشعور بالترؤس”، حتى لو لم يقربهما.
وفي وقت لاحق، تنتهي الأعباء وهموم الرئاسة، ويفترض أن يليها خلوّ البال، والروقان من صداع إدارة الأعمال الإدارية والصحافية، والتفرغ للمزيد من “الكتابة”، وهي ليست بالتمني، فلا نجد ثمرة إلا استعادة روح إنسان إلى من كان يوما رئيسا يحتاج إلى الإمداد بالقهوة والشاي والعصائر ليروق دمه المتعكر. بعد التقاعد ترتخي الأعصاب والملامح، من دون تعاطي هذا “العلاج”، ولا تأتي “الكتابة”، وكأنها ترتبط بالقدرة على الإنفاق من بيت مال المؤسسة على المؤلفة قلوبهم وجيوبهم.
إذا استأذنت المتنبي، فإن منصب رئيس التحرير يصغر في عين العظيم، أو هكذا يجب. ولكنه إذا كبر أكثر من اللازم، فإن بلوغه يُفقد الصغيرَ نصف عقله؛ وتتلف أعصابه في سبيل الحفاظ عليه، ثم يفقد النصف الثاني من عقله بإبعاده عن المنصب. ولا يملك الراشد إلا أن يردد قول السيد المسيح “ولا تدخلنا في تجربة، لكن نجّنا من الشرير”. آمين.