رئاسيات ليبيا من حرب الطعون إلى لحظة الاختيار

ولد عمر المختار في العام 1858 وعاش 73 عاما، إلى أن نفذت فيه السلطات الاستعمارية حكم الإعدام في السادس عشر من سبتمبر 1931، ولكن لم يحدث أن نطق كلمة ليبيا بلسانه أو سمعها بأذنيه أو كتبها ببراعة، والسبب بسيط، وهو أن هذا الاسم لم يكن متداولا في فترة حياته، وإنما ظهر لاحقا، عندما اعتمدته إيطاليا في منتصف الثلاثينات للإشارة إلى مستعمراتها الثلاث برقة وطرابلس وفزان، وقد اقتبسته من التاريخ القديم لبلاد البربر الممتدة من صحراء مصر الغربية إلى المحيط الأطلسي، والتي كان سكانها معروفين قبل وصول الفينيقيين إليهم بقبائل الليبو، وسميت حضارتهم بالحضارة اللوبية أو الليبية، قبل الحضارة البونية التي امتزج فيه البربر بالفينيقيين.
وفي الرابع والعشرين من ديسمبر الجاري سيحتفل الليبيون بمرور 70 عاما على تأسيس أول دولة تجمع بين الأقاليم الثلاثة برقة وطرابلس وفزان كإعلان عن قيام دولة ليبيا الحديثة بكيانها المعروف اليوم، وذلك ضمن ما سميت آنذاك بالمملكة الليبية المتحدة التي حازت استقلالها وتمت كتابة دستورها وتشكل بناؤها الهيكلي بدعم مباشر من الأمم المتحدة.
وفي نفس ذلك اليوم، ستشهد البلاد تنظيم أول انتخابات رئاسية في تاريخها بإشراف أممي ورعاية دولية، وفي ظل تجاذبات سياسية واجتماعية حادة، وصراع محتدم على السلطة وبالأخص على الثروة التي يسيل لها لعاب الفاعلين الأساسيين في الداخل والخارج. هناك منطق غنائمي مهيمن، وهناك عصابات تتحرك على أكثر من اتجاه، وأموال طائلة تُصرف، وشخصيات جدلية بعضها لا ينكر أنه يقود حربا انتخابية بالوكالة.
المهندس عبدالحميد الدبيبة رئيس حكومة الوحدة الوطنية، والتي تعتبر بحسب مجلس النواب حكومة تصريف أعمال حتى الثالث والعشرين من ديسمبر، يواجه اليوم سيلا من الاتهامات، أهمها خرقه للمادة 12 من قانون انتخاب الرئيس، ولشرط الجنسية، والضغط على القضاء والمفوضية لضمان عدم إقصائه من السباق، وشراء الذمم بالاعتماد على سلطته المادية والمعنوية ومن خلال تجييره مقدرات الدولة في تناقض واضح مع التزامه أمام ملتقى الحوار السياسي في تونس وجنيف بعدم الترشح للانتخابات والاكتفاء بإدارة المرحلة الانتقالية حتى موعد تسليم الحكم لمن يقع عليه اختيار الشعب.
والحقيقة، أن الدبيبة تحول إلى عنصر إحراج للأمم المتحدة وللمجتمع الدولي، ولاسيما أن الأضواء مسلطة على كل حركاته وسكناته وتصرفاته ودفوعاته ومخالفاته الصريحة للقانون ولا لخارطة الطريق، وحتى إذا كانت بعض الأطراف قد اختارت أن تغمض عينيها عن الوقائع الموثقة، إلا أنها لا تستطيع أن تضمن ما سيحدث في قادم الأيام، فيما يبدو واضحا أن بعض القوى تدخلت في اللحظات الأخيرة لإنقاذ رئيس المفوضية عماد السايح من ضغوط فريق رئيس الحكومة والمتعلقة بالأساس بملف الطعون.
نجح الدبيبة في السيطرة على المجلس الأعلى للقضاء وفي الدفع بالمفوضية إلى الطعن ابتدائيا في عدد من المترشحين، أبرزهم سيف الإسلام القذافي الذي يحظى بقاعدة شعبية واسعة، ونوري بوسهمين الذي يعتبر المرشح المفضل للمحسوبين على تيار السابع عشر من فبراير بما فيه من أتباع مفتي الإرهاب الصادق الغرياني وعناصر الميليشيات بالإضافة إلى أقلية الأمازيغ التي يتحدر منها، طبعا، دون أن يستطيع الاقتراب من المرشح خليفة حفتر الذي يكاد يكون اللاعب الوحيد في شرق البلاد، ولديه حظوظ وافرة في المنافسة على المراكز الأولى، وهو يتصرف كحاكم فعلي في ما يقارب ثلثي الجغرافيا الليبية.
ثم إن حفتر جزء من الحل وفق ما نصت عليه التوافقات الإقليمية والدولية، وهو صاحب قوة فاعلة على الأرض قوامها يتجاوز 80 ألف مقاتل، كما أن أغلب منابع الثروة خاضعة لنفوذه، وأي محاولة لتهميشه أو تهميش دوره، تعني ببساطة العودة إلى مربع الحرب والفوضى، وربما الاتجاه إلى تقسيم البلاد، وذلك بالعودة إلى ما قبل الرابع والعشرين من ديسمبر 1951، عندما لم تكن هناك دولة تسمى ليبيا، وإنما ثلاثة كيانات هي برقة شرقا وطرابلس غربا وفزان جنوبا.
عندما تقدمت مفوضية الانتخابات بالطعن في ملف ترشح سيف الإسلام، كانت تنفذ تعليمات واضحة، وكان هناك مخطط تدور مجرياته على الأرض بمشاركة تيارات مختلفة منها جماعة الإخوان وبعض المحسوبين على النظام السابق من أصبحوا يدورون في فلكها، والهدف منه هو دق إسفين بين “الخضر” وحفتر بصفته قائدا للجيش، ومحاولة جر قيادات عسكرية إلى التمرد، انطلاقا من أنها كانت تنشط في صفوف العسكرية الليبية قبل تدمير مؤسسات الدولة في العام 2011.
وهكذا مارس المجلس الأعلى للقضاء ضغوطا شديدة على قضاة محكمة سبها بهدف ثنيهم عن حضور جلسة النظر في الطعن الذي تقدم به ابن القذافي، مقابل نشر تقارير إعلامية وشن حملات على مواقع التواصل الاجتماعي فحواها اتهام حفتر بتكليف قواته بمحاصرة المحكمة ومنع القضاة من الوصول إليها، لكن بمرور الوقت، كانت التوازنات الدولية قد تغلب على محاولات تجاوزها، بينما اعتقد الدبيبة وفريقه أن هدفا مهما قد تحقق، وهو تأليب الأغلبية الساحقة من أنصار القذافي ضد حفتر، وإقناعهم بأن حصار المحكمة كان بتدبير منه لمنع سيف الإسلام من خوض السباق الرئاسي، فيما جميع المؤشرات تؤكد أن الدبيبة ومن ورائه المجلس الأعلى للقضاء ومفوضية الانتخابات، هم من يتحملون مسؤولية ما جرى.
بعد أن قررت المحكمة قبول طعن سيف الإسلام في قرار المفوضية بإقصائه من السباق، كان هناك رهان واضح على الطور الاستئنافي، بينما دخلت محكمة الزاوية خضم الصراع بإشارة من ابن المدينة خالد المشري رئيس مجلس الدولة الاستشاري وبعض الدائرين في فلكه من الإخوان وعناصر الميليشيات، وذلك بأن أصدرت حكما باستبعاد المشير حفتر من الرئاسيات، رغم أنه لا توجد بها دائرة للطعون الانتخابية، كما يشترط القانون، وإنما هناك فقط تشتيت للاهتمامات، ولعب على الأعصاب، ومحاولات لإيجاد مسوغات للتشكيك في جميع مراحل الموسم الانتخابي، وهو ما تفطن له المجتمع الدولي، الذي أبدى إصراره على عدم السماح بالإخلال بقانون اللعبة المتفق عليه سابقا، حتى أن المحكمة الفيدرالية في فرجينيا الأميركية رفضت كل محاولات الإخوان وداعميهم للتراجع عن تعليق النظر في الدعوى القضائية ضد حفتر، وبالتالي قطعت أمامهم طريق التشكيك في أهليته بخوض المنافسة على منصب الرئيس.
وعندما تقدمت مفوضية الانتخابات بالطعن في الأحكام القضائية الناقضة لقرارها بإقصاء عدد من المترشحين، كان قد تبين أن المستهدف الأساسي هو ابن القذافي، باعتباره الضلع الوحيد في مثلث صدارة نوايا التصويت الذي لا قوة له على الأرض عكس الدبيبة الذي يتولى وزارة الدفاع إلى جانب رئيس الحكومة ولديه قوة تأثير بسلطتي المال والقرار السياسي والإداري على عدد مهم من ميليشيات غرب ليبيا، وحفتر الذي يتولى قيادة الجيش الوطني من مقره في ضاحية الرجمة ببنغازي.
ومرة أخرى كان لا بد من تدخل خارجي لمنع إقصاء هذا الطرف أو ذلك ولقطع حبل الضغوط المسلطة على المفوضية، وهو ما حصل بالفعل، لكنه جاء ليفسح المجال أمام انتخابات مثيرة للجدل، يتنافس على الفوز بها مرشحون غير قادرين على التحرك بطلاقة في كافة أرجاء البلاد التي يتطلعون إلى رئاستها، بل إن سيف الإسلام مثلا، غير قادر على التحرك علنا في أي مدينة سواء في غرب البلاد أو في شرقها، كما أن كل طرف من تلك القوى الفاعلة ما انفك يعلن بوضوح أنه لن يعترف بنتائج لا تصب في مصلحة مرشحه، وسيجد بالتأكيد ما يعتمد عليه في ذلك، فالخروقات القانونية والدستورية كثيرة، والتناقضات السياسية كثيفة، وحالة الانقسام مستمرة مع تجاذبات حادة بين الفرقاء في ظل واقع يشي بأن البلاد لا تزال في مرحلة ما قبل الدولة، في مرحلة ما قبل ليبيا.
بين الرابع والعشرين من ديسمبر 1951 تاريخ قيام دولة ليبيا كما أرادها المجتمع الدولي، والرابع والعشرين من ديسمبر 2021 موعد أول انتخابات رئاسية كما يريدها المجتمع الدولي، هناك 70 عاما مرت بين العهد الملكي وزمن القذافي وصولا إلى مرحلة الفوضى خلال السنوات العشر الماضية، وسيكون على الليبيين أن يدشنوا عهدا جديدا يتجاوزون به سلبيات الماضي، ولكن ذلك لن يتحقق إلا بالمصالحة الوطنية الشاملة، وبأن يكون لهم مجال مشترك للاقتناع بأن لا بديل عن المشروع الوطني الجامع، حيث لا أحد يستطيع أن يلغي الآخر، وبالتالي فإن على الناخب أن يستغل جيدا لحظة الاختيار، وأن ينظر أولا إلى ملامح كل المترشحين، وأن يتأملها جيدا، فقد يتوصل إلى معرفة من لديه القدرة أكثر من غيره على تضميد الجراح وطي صفحة الآلام وإعادة الدولة إلى مسارها السيادي. عليه أن يستغل الفرصة جيدا لأنها قد لا تتكرر ثانية على الأقل في المدى المنظور.