ذلك الكاسيت المفقود

مضت تلك الأيام التي كان الناس فيها يتراسلون بالمكاتيب التي تبقى شهوراً في البريد قبل أن تصل، والتي اكتشفوا بعدها أن هناك طريقة جديدة يمكن أن تكون أكثر حميمية طالما أن الرسالة تتأخر، فلماذا لا تكون رسالة مسجّلة بالصوت؟
وتكاد تمر خمسة عقود على شريط كاسيت وصلني عبر آلاف الكيلومترات من جدي، سجّل فيه تحيات وأشواقاً، ومعها قصائد شعرية قديمة لراكان بن حثلين العجمي وعبدالله الفاضل وآخرين من شعراء القرن التاسع عشر العرب، حفظتها كلّها عن ظهر قلب، لكن المفقود كان شيئاً آخر.
كانت الراديوهات القديمة تدخل عصراً جديداً حين تم تزويدها بآلة يمكن معها أن تشغل شريط كاسيت وإن شئت يمكنك أن تسجّل ما تريد على شريط آخر. لكن قد يحصل خلل في عملية التسجيل تلك، والخطأ الذي وقع في تسجيل شريط جدي كان فريداً من نوعه، فقد حافظت الآلة على ما كان موجوداً على الشريط قبل التسجيل الجديد المرقوم عليه، وبقي الصوت خلفية خافتة شدّني الفضول لمحاولة فهمها.
ساعات طويلة قضيتها في تدوين وتأويل ما يمكن الاستماع إليه من الكلام الخافت خلف الكلام، ومعه كانت دفوفٌ تضرب وهَجَمات تعلو وأحوال تأخذُ ووجدٌ مستهام.
كنزٌ من نوع آخر مدسوس في شريط الكاسيت.
تسجيلٌ قديم ومشوّش معدّ بطريقة بدائية لحضرة صوفية حضرت فيها أرواح الحسنين والسيد أحمد الرفاعي وعبدالقادر الكيلاني وقصائد لحامد الراوي كان يرسل فيها سلامه وتحياته شتى إلى الموصل الحدباء وإلى المكنى ذي النون بن متى، وإذا بعالمٍ واسع مليء بالشخوص بقي محفوراً على الكاسيت رغم ما تم تسجيله عليه.
كانت تلك المرة الأولى التي أتعرف فيها على المديح الصوفي وطبقاته، مديح حقيقي لا كذاك الذي تصنّعه شعراء الحداثة مقلدين مقامات الصوفية. ولم يكن في بالي أن كلمات مثل الغوث والإشارات وكافة مفردات القاموس الصوفي ما تزال دارجة بين الناس بلهجاتهم العامية، وأنشأت لدي كل الكلمات المتقاطعة نسيجاً معقداً وواسعاً للشرق وأهله، قديمه وجديده، ماضيه ومستقبله.
ثم فقدتُ ذلك الكاسيت مع ما فقدته في سنين بعيدة، وبقيت أسأل عن التسجيل الخفي والحضرة وليس لدي عنها أي معلومة، فلا أنا أعرف المدّاح ولا المكان ولا الزمان، ومات جدي دون أن أسأله عن الأمر، خشية أن أُفسد القصّة وأخيّب ظنّه، لكن عبقرية اليوتيوب أعادته لي من جديد الأسبوع الماضي، فوجدت الكنز الكبير وأخذت أسترجع معه إشارات أولئك وأفكّر أين كانوا حين استباحت إيران وداعش ومثيلاتهما الفرات وأرضه، وأفقت صباحاً أتساءل: هل كان ذلك حقاً خللٌ عفوي في التسجيل، أم رسالة من الماضي تعمّد جدي إرفاقها برسالته ليتم فك شيفراتها يوماً؟