ذكريات مستشرق روسي تتداخل مع تاريخ القاهرة

المستشرق الروسي جينادي جورياتشكين يروي سيرة المؤرخ المصري رؤوف عباس وجيل الريادة الثقافية.
السبت 2019/02/23
رءوف عباس مثقف يختزل سيرة جيل

لعبتْ مصر الستينات دورا محوريا خاصة لطلاب البعثات العربية والأجنبية. فصارت مصر “ولعا عربيا وغربيا في آن واحد” إن جاز التعبير. وقد تمّت ترجمة هذا الولع في صورة كتابات كانت بمثابة عين ثانية ومغايرة في تقديمها للحياة في مصر وللمصريين كما في الكتاب الشهير “مصر ولع فرنسي” لروبيه سوليه، أو “مصر بعيون مغربية” للمغربي محمد مشبال، و”أيام كايرو بعيون مغربية” للصحافي المغربي عبدالعزيز بلبودالي، وغيرها.

الكثير من الكتب قدمت عن مصر ألفها عرب أو غربيون، خاصة ممن درسوا في مصر، وقد سجلت أغلب الكتابات لحظات الذكريات في أرجاء مصر وفي ذات الوقت دلَّتْ على وفاء نادر من هؤلاء الدارسين. على ذات هذه الكتابات التي قدمت صورة لمصر بعيون روّادها جاء كتاب المستشرق الروسي جينادي جورياتشكين “رؤوف عباس: لقاءات وذكريات” بترجمة الدكتور نبيل رشوان.

وفاء وعرفان

يحمل عنوان الكتاب، الصادر عن دار الهلال 2017، اسم الدكتور رؤوف عباس المؤرخ المصري. ويسرد فيه المستشرق الروسي ذكرياته ولقاءاته مع المؤرخ أثناء تواجده في مصر، وفي ذات الوقت يقدم صورة لمصر وأحوالها من منظور هذا المستشرق. وقد جاء الكتاب في أربعة فصول مسبوقا بتمهيد عرض فيه لبدايات اللقاء حيث كان المستشرق رئيسا للبعثة الروسية التي جاءت للدراسة في القاهرة، ومع حداثة سنه، لكن حدث التقارب بينهما، فصار بالنسبة إليه ليس زميلا بل صار صديقا مُقربا جدا.

 يصف جورياتشكين الدكتور رؤوف بأنه “قدّم عددا من الأعمال العلمية على شكل مؤلفات وأبحاث، ليحتلّ مركزا مرموقا بين علماء الاجتماع المصريين الذين وهبوا أنفسهم للاجتماع والتاريخ والذين قدموا بذلك إسهامات جديدة في الإبداع الوطني”. كما يروي فيه عن مشاهداته في القاهرة فيستعرض المستشرق في نبرة فخر وإجلال لهذه الفترة التي قضاها في مصر دارسا، ثمّ مسؤولا عن البعثة السوفيتية في القاهرة، جانبا من الأجواء العلمية في الجامعات المصرية.

ويتضمن الكتاب وهو يعرض لسيرة الدكتور عباس من منظور الاستشراق الروسي لدور مصر الثقافي في هذه الحقبة المهمّة، وكذلك للمناخ الثقافيّ فيها، وهو ما يؤكّد على دور مصر الريادي في المنطقة في حمل شعلة التنوير والتثقيف التي أخذت في التضاؤل بعدما كانت سباقة ورائدة، كما يشير إلى أفكار الدكتور عباس التي كانت سببا رئيسيا في اعتماد مدرسة الاستشراق الوطنية الروسية لاتجاه جديد مرتبط بدراسة التراكيب الاجتماعية للدول النامية، وهو ما يؤكد على الدور الطليعي المصري الذي مارسته النخبة الطليعية في هذه الفترة.

المستشرق يروي مشاهداته في القاهرة في الفترة التي قضاها في مصر ذاكرا محطات ثقافية وتاريخية مهمة

ويعتبر الفصل الأوّل من الكتاب تلخيصا لسيرة الدكتور رؤوف عباس التي استفاض فيها في كتابه ذائع الصيت “مشيناها خطى“، وإن كان المؤلف هنا يتوقف عند محطات مهمِّة ينتخبها بعناية فائقة من هذه المسيرة، حيث يهدف من ورائها لإبراز مسيرة عباس النضالية في ضوء الحراك السياسي والظروف الاجتماعية التي تحداها حتى تبوأ أعلى المناصب العلمية.

المدهش حقا هو ربط المؤلف لسيرة عباس الحياتية والتعليمية بتاريخ مصر الحديث والأزمات الاقتصادية وكذلك الحروب التي أجبرت عليها مصر، وهو ما كشف عن الجانب النّضالي لدى عباس، وهو ابن موظف السكك الحديدية والذي لا يملك إلا القليل، وأيضا كشف عن الجانب الوطني الذي لم يكن فقط مجرد شعارات بل أفعالا حيث انخراطه وهو صغير في صفوف المظاهرات، ثم في مرحلة لاحقة انضمامه إلى صفوف المتطوعين للدفاع عن بورسعيد عقب العدوان الثلاثي وكذلك دفاعه عن حقوق العمال في الفترة التي عمل فيها.

الحياة العلمية

 يتحدّثُ المستشرق الروسي في الفصل الثاني عن علاقة رؤوف عباس بالحياة الجامعية، وتدرّجه حتى تأسيس المدرسة التاريخيّة، ومن خلال استعراضه لحياة رؤوف في الجامعة يُقدِّم صورة للنظام التعليمي والمدارس العلميّة داخل الأقسام، وكذلك الحياة العلمية في تلك الحُقبة كما تجلّت في صورة المحاضرات التي يقوم بها الأساتذة. ويستعرض لمحاضرة ألقاها في الجامعة عن الخديوي إسماعيل مقارنة بالخديوي سعيد.

 وفي الفصل الثالث أشار جورياتشكين إلى المدرسة المصرية التاريخية ونشأتها وتطورها، وإن كان يشير إلى أن التكوين الفكري للدكتور رؤوف كباحث في التاريخ حدث على خلفية تطور المدارس التاريخية في بلاد الأهرامات بكل فروعها الرئيسية؛ السياسية والاقتصادية والتاريخ الاجتماعي وكذلك بعض فروع العلوم التطبيقية. وإن كان يُرجع الدكتور عباس جذور الأبحاث التاريخيّة الحديثة في مصر إلى القرن التاسع عشر، الذي شهد ظهور العديد من المؤرخين المصريين الذين أعربوا عن رغبتهم في كتابة التاريخ، وخطّوا على الورق ملاحظاتهم المهمّة التي لا يستطيع أيّ مؤرخ معاصر أن يعمل دونها أو يتخطّاها.

سيرة للقاهرة وتاريخها الثقافي
سيرة للقاهرة وتاريخها الثقافي

كما يُصحح الخطأ التاريخيّ الذي وَقَع فيه البعض بالقول إن العمل الأكاديمي لكتابة التاريخ بدأ عام 1908، والصحيح عنده أن البحث الأكاديمي الحقيقي بدأ عام 1924، عندما ظهرت جامعة فاروق الأول الحكومية. ويدين عباس ضعف البرامج البحثية لتدريس التاريخ في الجامعات المصرية، بالإضافة إلى غياب فلسفة التاريخ في أقسام التاريخ في الجامعات المصرية. كما يذكر الجوانب السّلبية في إعداد المُؤرِّخ وهو ما يتمثّل في عدم وجود المدارس العلمية في مصر، بالإضافة إلى عدم وجود اتصالات مع الدوائر العلمية الدولية، ويرجع هذا لأسباب عديدة منها عدم تشجيع الجامعات المصرية هيئات التدريس على المشاركات في المؤتمرات الدولية بسبب عدم وجود المُخصصات المالية.

ويشير المؤلف إلى انضمام رؤوف عباس إلى الجمعية المصرية للدراسات التاريخية عام 1966، لم يتجاوز وقتها 27 عاما، وقد تأسست الجمعية عام 1945 بناء على مرسوم من الملك فاروق تحت اسم الجمعية الملكية للدراسات التاريخية. وقد أصدرت الجمعية منذ إنشائها حتى وفاة محمد شفيق غربال عام 1961، عدة كتب عن عصر محمد علي وإبراهيم وإسماعيل. ورغم تواضع مقر الجمعية إلّا أن منصتها شهدت حسب قوله “محاضرات كبار مؤرخي مصر الذين يلقون محاضراتهم في المواسم الثقافية المختلفة، وكذلك شهدت محاضرات لمؤرخين أجانب مثل أرنولد تويني وجاك بيرك وأندريه ريمون”.

ويحكي المستشرق إضافة إلى تاريخ الجمعية ونشأتها عن دور الدكتور عزت عبدالكريم المهم في إثراء أنشطة الجمعية، ثم انتخاب الدكتور رؤوف بعد انقلاب أبيض قامتْ به المؤرخات نيللي حنّا ولطيفة سالم ومنى بدر على رئيس الجمعية الدكتور إبراهيم نصحي. ثمّ الأزمات التي ألّمت بالجمعية وأهمها شبح تهديد فقدانها مقرها، ثمّ اللجوء إلى رُعاة الثقافة من الشخصيات العربية كالشيخ زايد والشيخ سلطان القاسمي أمير الشارقة خريج جامعة القاهرة في دعم الجمعية.

ويذكر المؤرخ أن الشيخ القاسمي لعب دورا مُهما في إنقاذ المقرّ، بأن طلب تجهيز مقر جديد يتناسب مع مكتبتها العريقة. وبالفعل تمّ افتتاح مقرّ الجمعية في عام 2001 بحضور الأمير القاسمي. فتحولت الجمعية بفضل عطية الشيخ إلى مركز ثقافي علمي رائع ومنارة للإبداع الذي لا يهدف سوى لخدمة تاريخ هذه الأمة، ومعهد لإعداد الكوادر العلمية.

وينتهي المؤلف في كتابه إلى تأكيد الدور الروسي الداعم لمصر. كما يشير إلى ثورة 1919 في الأدبيات الروسية، فيقول عنها إنها ظلت أهم حدث في تاريخ مصر الحديث، وكانت محورا دائما لاهتمام المستشرقين السوفييت.

الكتاب على الرغم من أنه يدخل ضمن كتابات الذات إلا أنه في الوقت ذاته أشبه بسيرة للقاهرة وصورة للحياة العلمية والسياسية والثقافية لمصر في حقبة مهمة من تاريخها، وإن كان من منظور روسي عاشق.

15