ذاكرة مثقوبة للمتربّحين من نظرية المؤامرة

هزمت "الثورة‏" واستعادت أسماءها قبل انتصارها المؤقت، وهي "الأحداث، المؤامرة‏"؛ لأنها ليست على هوى النظام الذي يحسبه كتبة مبارك منقذا من الضلال.
الثلاثاء 2019/01/15
ثورة 25 يناير 2011 التف حولها الجميع "بذكاء"

في الذكرى الستين لانطلاق الثورة الجزائرية، شاهدت فيلم “الوهراني” في مهرجان أبوظبي السينمائي عام 2014، ونال مخرجه وبطله إلياس سالم جائزة أفضل مخرج من العالم العربي. لم أتخيل آنذاك مشاهدة عمل فني جزائري يثبت نضج الثورة واستواءها، وقدرتها على الصمود للتحليل والمراجعة واحتمال الانتقاد؛ بتسليط أضواء على من لم تصمد أنفسهم أمام إغراءات المال والنفوذ، فكانوا أقل وفاء لمبادئ الثورة ولدماء زملائهم، شهداء الكفاح. وهكذا لم ينجح ثوار نجوا من القتل في الجهاد الأصغر، وتأكدت بضعفهم بشريتهم، ومنهم “الوهراني” الذي ربما أغضب من يبتغون للثورة صورة نقية لا يشوبها سلوك فردي، بعد تحوّل الثورة إلى دولة.

ما، ومن، لا يصمد للنقد والتشكيك، في قداسته بل في وجوده، لا يعوّل عليه. وتاريخ الإنسان هو نفسه تاريخ “التفكّر” في الله، وهو أكثر حقيقة مطلقة تتعرض للبحث في ذاته وصفاته، وللإنكار أيضا، من دون أن ينتقص ذلك من مُلك الله شيئا، أو أن يمس الملحدين أذى، فلم يؤمر رسول بقتل الذين لا يؤمنون بأن للكون إلها. ولم تتأثر اليهودية بمن ينكرون عن عقيدة، أو يرفضون عن جهد علمي، وجودا تاريخيا في مصر للنبي موسى. كما لم يؤثر اختلاف المسيحيين حول طبيعة السيد المسيح في زعزعة يقين المؤمنين، وعدد المسيحيين في العالم حاليا هو الأكبر بين معتنقي الديانات.

الذين لم يدركوا الكاميرات الفوتوغرافية التقليدية، قبل الاكتساح الرقمي، لا يعرفون مصطلح “تحميض الفيلم”، وكان الفيلم بعد الانتهاء من التقاط صوره، ذات العدد المحدود، يخرج بحرص من الكاميرا في إعتام تام، ويخضع لعملية إظهار بوضعه في سائل حمضي، لفترة تكفي لتثبيت تفاصيل الصور، ثم يغسل الفيلم بالماء، وينتهي إلى نسخة سالبة، كنا نسمّيها “عفريتة”، تنسخ منها الصور الإيجابية النهائية. بعد تلك الخطوات تكون بين أيدينا “حقيقة” ثابتة، لا تسمح بإضافة عناصر أو إزالة تفاصيل، وكان التزوير قبل العصر الرقمي فضيحة. وكانت تلك العملية مهددة بخطأ واحد هو الضوء الذي “يحرق” الفيلم، إذا مسّه قبل اكتمال التحميض، وظهور النسخة السالبة.

تجري للأحداث والأشخاص عملية تثبيت وطنية عابرة للأجيال، وما يرسّخ في الضمير الجمعي من “حقائق” لا يُخشى عليه، ولا يحتاج إلى من يدافع عنه. فمن وقت لآخر يقول أدونيس إن “المتنبي غير حداثي”، وتنطلق أصوات تطعن في الحبيب بورقيبة وهواري بومدين وجمال عبدالناصر الصامد، في قبره منذ عام 1970، في وجه اغتيالات معنوية تزيد روحه كبرياء.

مرسي عطاالله حظي بكل شيء يحلم به صحافي ذي صلة بالأجهزة العليا
مرسي عطاالله حظي بكل شيء يحلم به صحافي ذي صلة بالأجهزة العليا

أن تنجو سير هؤلاء من الاستهداف المتصل، فهذا دليل على أنهم، من المتنبي إلى عبدالناصر، “حقائق” اختبرت وثبّتت في فيلم نهائي، وكلما أثارت جدلا وتجددت الطعنات، أضافت إلى الصور أبعادا جديدة. هكذا ينتقلون من أوهام الهشاشة باسم القداسة إلى صلابة البقاء، ومن هنا يثبت فيلم “الوهراني” أن الثورة الجزائرية حقيقة لا يخشى عليها، وأن أخطاء فردية لا تسيء إلى جلالها، ولم يرتكب الوهراني وغيره خطأ أكبر من حاطب بن أبي بلتعة، وقد بعث إلى قريش بكتاب فيه بعض أخبار الرسول صلى الله عليه وسلم، واعترف بالأمر الذي يبلغ درجة التخابر، وأسف لأنه ضعيف، ليس له في قريش شوكة تحمي أهله، “فأحببت إذ فاتني ذلك من النسب فيهم أن أتخذ فيهم يدا يحمون بها قرابتي، ولم أفعله كفرا ولا ارتدادا عن ديني، ولا رضا بالكفر بعد الإسلام”. وصدقه الرسول، وأراد عمر أن يضرب “عنق هذا المنافق”، فنهاه الرسول قائلا إن حاطبا “شهد بدرا، وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم”.

وكلما انهالت اللعنات على 25 يناير 2011 تأكد لي أن روح الثورة استقرت في الضمائر كحقيقة، وأنها رغم حصار أنصارها اكتسبت مناعة تحصّنها من طوفان الأكاذيب والأحقاد الرسمية والموجّهة عبر ضحايا الذاكرة المثقوبة. ومع بشائر يناير يبدأ موسم إطلاق سهام ترتد، فلا تصيب الهدف، وإنما تغيظ الذين حيّرتهم الثورة، فشبطوا في عربتها الأخيرة ومدحوها، ثم قفزوا من القطار، لغلبة الحنين إلى محطة حسني مبارك. وأكتفي بنموذج مرسي عطاالله الذي حظي بكل شيء يحلم به صحافي ذي صلة بالأجهزة العليا، فتولى رئاسة تحرير الأهرام المسائي ورئاسة مجلس إدارة الأهرام ورئاسة نادي الزمالك بالتعيين. وفي نهايات حكم مبارك نقل الولاء إلى جمال مبارك، بذكاء يكسب به الابن ولا يخسر الأب.

وقبل أن يتبيّن لعطاالله الخيط الأبيض من الخيط الأسود من فجر الثورة، كان يسميها “الأحداث”، وبعد خلع مبارك، 11 فبراير 2011، زايد على الثائرين في مقالات 2011. ففي 18 فبراير تفاءل بإرساء قواعد دولة عصرية بعد “مظاهرات الاحتجاج والغضب التي عمّت مصر منذ عام 2005 ثم بلغت ذروتها يوم 25 يناير 2011 على شكل ثورة شعبية”. وفي 14 يونيو أشاد بمستوى “الحلم والطموح لدى شباب أطهار فجروا الثورة بعيدا عن أي انتماءات حزبية أو دينية”. وفي 19 يوليو نادى بإحداث “تغيير جذري في مناهج وأساليب عملنا لكي نكون عند مستوى أحلام وأهداف ثورة 25 يناير”. وبعد يومين ابتهج “بروح الثورة التي التف حولها الجميع والتي وفرت فرصة ذهبية لصنع التغيير المنشود”.

وفي 23 يوليو كرر كلمة “الثورة‏” سبع مرات، في مقال مكون من 283 كلمة، معلنا عن “نسائم الحرية التي أفرزتها ثورة ‏25‏ يناير‏”. ولم يخلُ مقاله اليومي من التبشير بالأحلام “والطموحات المشروعة وتلك الآمال والنبوءات التي انتشرت في ظل زخم واسع لثورة 25 يناير… والأمل كبير في أن أول برلمان يجيء عقب ثورة 25 يناير سوف يكون على مستوى الحلم وعلى مستوى التحدي”.

هزمت “الثورة‏” واستعادت أسماءها قبل انتصارها المؤقت، وهي “الأحداث، المؤامرة‏”؛ لأنها ليست على هوى النظام الذي يحسبه كتبة مبارك منقذا من الضلال، وحمّل عطاالله 25 يناير خطايا الآخرين، وكتب في 9 يناير 2019، مقالا عنوانه “عن أي ثورة يتحدثون!” مستخفا بمن يراهم مراهقين سياسيين يتحدثون عن “الأمجاد المزعومة” لأحداث 25 يناير، “رغم كل المصائب والنوائب… إذا كان البعض مازال مصرا على تسمية ما حدث في 25 يناير بأنه ثورة استنادا إلى ديباجة الدستور الذي جرت صياغته تحت عواصف التهييج والتزييف، فإن عليهم أن يراجعوا أنفسهم… فكانت النتيجة مزيجا مرعبا من الفوضى والخراب”. الثورة لم تحكم، وتحتفظ بقدرتها على الصمود. ولا تحتمل 30 يونيو 2013 خطأ طباعيا لأي من الكتبة يعتبرها “انقلابا‏”. ستكون خطيئة تدعو إلى تحسّس المقاعد قبل الرؤوس.

9