ديمقراطية التعليم وصناعة الإنسان في الجزائر

ديمقراطية التعليم الجزائرية ضمنت التغطية الشاملة للبلاد ولكن السؤال المطروح هل استطاعت الدولة التي نجحت في بلوغ هذا الكم أن تصل إلى النوع بعد ستة عقود من الاستقلال.
الجمعة 2023/10/13
التعليم في الجزائر.. جعجعة بلا طحن

لأي حكومة في الجزائر الحق في التخوف مع بدء الدخول المدرسي والجامعي، الذي تعتبره صلب المحور الاجتماعي في البلاد، لذلك لا تتوانى في ضمان الحد الأدنى الممكن من المرونة والسلاسة، نظرا لما تمثله العودة من موسم اجتماعي كبير، حيث تستقبل المدارس والجامعات ما يقارب 13 مليون طالب، وهو رقم يشكل تعداد سكان لدول منفردة أو مجتمعة، ولذلك تحشد كل إمكانياتها من أجل ضمان دخول ناجح، وبعد ذلك كل شيء قابل للأخذ والرد.

تبقى ديمقراطية التعليم في الجزائر من أبرز المكاسب التي صمدت في وجه كل رياح التغيير والتحولات السياسية والاجتماعية، حيث لا زالت العائلة الجزائرية لا تطرح في أجندتها أقساط تعليم أبنائها من السنة الأولى ابتدائيا إلى غاية آخر سنة في التعليم العالي، باستثناء المتطلبات الضرورية الأخرى، إضافة إلى ذلك هناك من يستفيد من المساعدات الحكومية في تأمين الحقيبة المدرسية.

ديمقراطية التعليم في الجزائر مكسب مقدس أمّنه الاستقلال الوطني للجزائريين، ولذلك لم تجرؤ أي سلطة في البلاد على المساس به، لما يمثله من رمزية لثمار التضحية من أجل الحرية والاستقلال، ومن عامل للاستقرار الاجتماعي والتكافل الوطني، وبواسطته استفاد أبناء الجزائر البسطاء من منح الدراسة في كبريات الجامعات والمعاهد العالمية أيام البحبوحة المالية.

◙ مئات الآلاف من التلاميذ تسربوا في مختلف المراحل التعليمية هم الآن شباب يصعب عليهم العثور على خدمة حرفية راقية في البلاد، ولذلك يستنجد أصحاب الأعمال بحرفيين من المغرب أو رعايا أفارقة

في الجزائر ينتسب ثلث المجتمع إلى المدارس والجامعات، حيث تستقبل وزارتا التربية والتعليم العالي الملايين من التلاميذ والطلاب، وهذا مؤشر قوي على حجم التحدي الذي تواجهه الحكومات المتعاقبة، خاصة وأن القطاعين يعتبران المرآة الاقتصادية والاجتماعية للبلاد، وكل نقص أو تقصير هو دلالة على عدم بلوغ الطموح المشترك لكل الجزائريين، بداية من مقاتلي ثورة التحرير، الذين ضحوا بأرواحهم من أجل إنهاء حالة الحرمان والتمييز التي طبقتها فرنسا الاستعمارية على الأهالي، إلى المؤسسات الوصية والأولياء الذين يتوقون إلى رؤية جهودهم تثمر بوصول أبنائهم إلى أعلى مراتب التتويج والتألق.

ديمقراطية التعليم الجزائرية ضمنت التغطية الشاملة للبلاد، ومقعدا دراسيا لكل طفل أو طالب، ولذلك ما فتئ الرقم يرتفع سنويا والأعباء تزداد ثقلا على كاهل الخزينة العمومية. لكن السؤال المطروح هل استطاعت الدولة التي نجحت في الكم أن تصل إلى النوع بعد ستة عقود من الاستقلال؟

في سنوات الاستقلال الأولى كان الطالب الجامعي يشار إليه بالبنان، نظرا لندرة الفرص التي حاز عليها الجزائريون في المنظومة التعليمية الاستعمارية، وحصرية المرافق والهياكل على أبناء المعمرين والأقدام السوداء والمتعاونين، ولذلك انصب اهتمام سلطات الاستقلال على استدراك الوضع بهدف سدّ الفراغ الذي تركته الإدارة الفرنسية، وإدارة دواليب المؤسسات الحديثة بالكفاءات المحلية، بينما لم يتم التفكير في صناعة إنسان المستقبل والنخب القادمة.

يتخرج من الجامعات والمعاهد الجزائرية ربع مليون طالب سنويا، وقياسا بفرص الشغل والاندماج في المنظومة الاقتصادية والإنتاجية، يبقى الاختلال كبيرا جدا، حيث يحال العدد الأكبر من هؤلاء على لوائح البطالة المهددة بكل الأخطار الاجتماعية والنفسية، يضافون إلى قنبلة تجري مداراتها بدل تفكيكها في ظل غياب إستراتيجية واضحة وفعالة لصناعة الإنسان والنخب في البلاد.

◙ المنظومة التعليمية الجزائرية بقدر ما هي في حاجة إلى مراجعة، من أجل تحويل الكم إلى كيف، بقدر ما صناعة الإنسان والنخب في حاجة إلى بلورة

وكما تتباهى المؤسسات بأن منتسبيها هم تعداد دول بأكملها، فإن العبء والحصيلة هما أيضا تعداد دول من العاطلين عن العمل والتائهين في دروب الضياع الاجتماعي، والإخفاق الرسمي في استخراج وتوظيف تلك الطاقة الباحثة عن الانفجار في بلدها، بدل تفريغها في مسالك الهجرة السرية وشوارع المدن والعواصم الأوروبية.

وفي سنوات التعليم الثانوي والمتوسط وقبل الوصول إلى امتحان شهادة البكالوريا، يتسرب أيضا عشرات الآلاف من التلاميذ، وهو زخم بشري يتراكم سنويا، يمكن الاستفادة منه في تحريك دواليب الاقتصاد والإنتاج الوطني، لو تم التخطيط والتوظيف الفعال لتلك الطاقات الكامنة. حتى فرص التكوين المهني لم تعد تضمن اليوم المهنة أو الحرفة، والكل يتخبط في أتون البطالة سواء تخرج من الجامعة أو تسرب من الثانوية أو المرحلة المتوسطة، وحتى من مركز التكوين المهني.

المنظومة التعليمية الجزائرية بقدر ما هي في حاجة إلى مراجعة، من أجل تحويل الكم إلى كيف، بقدر ما صناعة الإنسان والنخب في حاجة إلى بلورة، فستة عقود من التعليم المجاني ومن تغطية وتكفل الدولة بالمنظومة، لا بد أن تفرز إنسانا جزائريا ونخبا جزائرية في مستوى تحديات العصر والدولة الحديثة، والاهتمام لا بد أن يلتفت إلى هذا الخيار لأن الاستثمار يستوجب أن يكون أفقيا وعموديا.

◙ العائلة الجزائرية لا تطرح في أجندتها أقساط تعليم أبنائها من السنة الأولى ابتدائيا إلى غاية آخر سنة في التعليم العالي، باستثناء المتطلبات الضرورية الأخرى

في الكثير من المؤسسات والمراكز والجامعات العالمية تتواجد الكفاءات الجزائرية، وهي نواة أولى للمشروع، لولا خلل ما لا زال يعيق ذلك، فهؤلاء تخرجوا من المدرسة ومن الجامعة الجزائرية، وفجروا طاقاتهم في حواضن ومناخات مهيأة لهذا الغرض وليس لغيره، فأن تستعين فرنسا منذ سنوات فقط بـ1200 طبيب جزائري، وأن يشكل الجزائريون أكبر المقبلين على امتحان القبول في امتحانات الالتحاق بالمستشفيات والمراكز الصحية الفرنسية خلال هذا الصيف، فذلك دليل على أن الاستفادة من الإنسان والنخب في الجزائر ليست على ما يرام، وإلا لكان بالإمكان وبهؤلاء فقط، وضع أسس صناعة وسياحة طبية في البلاد.

وأن يسارع المشرع إلى إقصاء المغتربين مزدوجي الجنسية من تبوّؤ المناصب العليا في الدولة، دليل على أن البعض لا تروقه رؤية ناجحين أكاديميا ومهنيا في مواقع عليا، وذلك بالربط بين الجنسية الثانية وعدم الوفاء والولاء للوطن وللأمة، وكأن الذين بداخلها ملائكة الوطنية، وليس منهم الذين حملوا أموالهم وعائلاتهم وعقاراتهم وثرواتهم إلى الخارج، لأنهم لا يثقون في هذا الوطن.

مئات الآلاف من التلاميذ تسربوا في مختلف المراحل التعليمية هم الآن شباب يصعب عليهم العثور على خدمة حرفية راقية في البلاد، ولذلك يستنجد أصحاب الأعمال بحرفيين من المغرب أو رعايا أفارقة وحتى صينيين، بدل الأيادي الجزائرية المشلولة، بسبب الإخفاق في صناعة إنسان مهني ومحترف، فالمنظومة التعليمية والمهنية التي علمته ودربته لم تلقنه دروب الاندماج في الدورة الاقتصادية والإنتاجية، بل ظل بالنسبة إليها مجرد رقم يقدم في البيانات والإحصائيات حتى لا يقال إن الحكومة قصرت في ديمقراطية التعليم، ولم ينظر له على أنه مشروع إنسان يتم إعداده لتقديم القيمة المضافة لمجتمعه.

9