ديلشاد كويستاني يؤسس عالما تجريديا مليئا بروائح ربيع كردستان

أينما يكون الفنان ديلشاد كويستاني يكون معه اللون رفيقا وأينما تحرك تجتاح الأغنيات المفعمة بفرح الطبيعة تجلياته الحسية وتجاذباته الفكرية لتتكامل مُشرقة في لوحاته وتتناسق كحبات السنابل وهي تراوغ معه أسلوب التجريد بالابتكار، في تكامل مع صور ذاكرته التي تساكن كردستان الطبيعة ومواسمها التي حملها إلى العالم بكل اختلافاتها واندماجاتها، تلك التي تثبته شرقيا غارقا في ألوانه، إنسانا مكتملا في بحثه وحيويته مع بقية الثقافات التي انفتح عليها وتعايش معها بمحبته التي ترشح بألوانها، تلك الألوان التي جعل منها أجنحة وحلق بها أبعد في طموحه الفني وانفعالاته الحسية التي انعكست على جمالياته المشعة والمبتكرة.

◙ دلشاد كويستاني المنتصر لتنوعه وهويته أجاد التفالعلات الفنية فاندمج فيها مع تمازجاته الثقافية
هي التفاعلات الفنية التي أجادها الفنان التشكيلي دلشاد كويستاني العراقي الكردي المنتصر لتنوعه وهويته المقيم في فرنسا منذ أكثر من عشرين سنة، فاندمج فيها مع تمازجاته الثقافية، وتجلى فيها بكل انتمائه وهويته وحضوره ولغته التشكيلية التي صقلها بتجريبه وصبره وتبصره المصقول بالمحبة وتحمله لكل تفاصيل التناقضات التي مرة تتمرد في ضجيج بحثه الساكن وأخرى في هدوء عواصفه، وهي فلسفة بصرية عتقها ديلشاد منذ سنوات وأنضجها في مفاهيمه الفنية وحواسه التي نثرها في معرضه الأخير “عبق التراب” الذي يقيمه في موطنه، في مدينة السليمانية والذي انطلق في 15 مايو وسيستمر لمدة شهر برعاية ART Frosh و VIM Foundation.
ولد دلشاد كويستاني في كركوك كردستان العراق سنة 1957 وكان منذ صغره مولعا بالفن بالغناء بالشعر والرسم والسينما وتناغم الفنون التي تعبر عن دهشة الفكرة التي لا تفصل فيما بينها، فكثيرا ما جمع ألوانه مع تعبير الفيديو، إذ كان البطل الرئيسي لأكثر من فيلم قصير وطويل.
حملته ازدواجية الانتماء إلى التعبير أكثر عن اندماجه في الذات الإنسانية في حضوره، فالاختلاف لم يزده إلا تميزا في الثقافة والموروث الذي نما بالسفر الذي بدوره لم يكن مجرد تنقل في الأمكنة بل كان اندماجا في الإنسان الذي حمل العراق بتاريخه وأساطيره وحضارته وشجنه وفوضاه وصخبه السياسي وانغمس به في اليونان وإيطاليا وفرنسا وبلجيكا وألمانيا وإسبانيا ولندن واليابان وكوريا الجنوبية وتونس والمغرب.
يقدم هذا المعرض 30 لوحة زيتية على القماش بأحجام مختلفة تنعكس فيها روح الطبيعة وتجليات مواسمها وما رسخ في ذاكرته من صور حاول تجريدها والتماهي معها من خلال توحيد اللون وتدريجه وتطبيقه على مساحات واسعة وفق كتل متداخلة ومتجانسة ومتضادة، تحكي كل كتلة في تفاعلها حكايات المحبة والتاريخ الراسخ لها في مسار الإنسانية وخلودها بالإبداع حكايات التراب وتماسه مع الطبيعة والصراع الوجودي من أجل المحبة والحياة والاستمرار بإصرار يتجاوز قهر الواقع القاسي.
فتجربة ديلشاد تعكس مسارا بصريا محفوفا بالصبر والتجليات الإنسانية التي توقد جذوة التمرد على الفراغ وسطحيته، وتحطم صنم الصمت الممرغ في الذاكرة الرملية المؤقتة لاندلاع الفكرة واشتعالها التي تتجلى في تحركات التدريج باعتماد البعد الأسود ما يثير التجلي عند كل لون، كما في الميزة التي يحملها اللون الأصفر وإشعاعه في الألوان الحارة وانسيابها المندمج بين مشتقاتها ومع الألوان الترابية التي تتوغل فيها وفق رؤى تجريبية تلفت عين المتلقي، فيرتحل عبرها إلى فضاءات اخبة باحتفالات الطبيعة بمواسمها.

◙ فلسفة بصرية عتقها ديلشاد منذ سنوات وأنضجها في مفاهيمه الفنية وحواسه
يعتبر كويستاني أن كردستان التي تسكن ألوانه ليست مجرد مكان بل هي العبق المؤثر في اختياراته التي تساكن ذاته في ذاكرته، من خلال الطبيعة وما تحمله في ثناياها في كل مكان يزوره ويتوقف عنده، حتى يبقى عبقها منثورا على لوحاته وألوانه التي تعلم ترويضها بعناد يجتاح فيه تلك التفاصيل المخزنة التي تراود أحلامه وتوقظه من واقعه لتعيده إليه.
فحضور اللون في تجربته مع التجريد ليس فعلا جامدا واضحا على مسطحات أعماله بل هو الإيقاع الذي يحتضن اللوحة ويحافظ على مزاج الذاكرة ومجازات صورها، لتفتح المنافذ نحو وجود حسي كاسر لقواعد التقاليد المكبلة وروتين التلقي المسبق وهو يعدم الحب والمحبة ويخلق التفرقة.
فاللون له عبق يوحد الاختلافات حمله كويستاني إلى مناطق الاحتراف الفني وابتكار أسس الجمال ليروض الضوء على إيقاع النور في روحه في تأملاته الزمانية التي مزجت الحنين الساكن فيه، رغم صوره المؤلمة مع إشراقات القادم، فقد حمل أكثر من رائحة كان عناقها الأبدي منتصرا لصورها الربيعية التي تفتح تجاذباتها على عطر الورود بكل تلاوينها العاشقة.
تبدو الرموز في تفاصيل اللون ودقته المنتشرة على اللوحة بتدريجاتها العابقة محاكية للكون والتكوين للحياة وتناقضات الوجود والمنشود لصور البدايات وتفكك النهايات على ذاتها، ليخلق الموازنات الطبيعية.
إن عالم كويستاني التجريدي مليء بفيض الروائح وتجليات الألوان ببحور الضوء مع تناغماته بين الصحو والمحو في رؤية حميمة ومحتدمة، تتفجر براكين لوحاته مواسم عطاء يندفع نحو السمو يتناحت الفكرة ويتحافرها في الوجود والتكوين يعالجها من وجعها وتأثير الجمود المادي وعتمة الصدام بموسيقى عابقة تراقص تحول الفصول في المعنى جماليا.