ديفيد هيرمان يؤسس لسرد ما وراء الإنسان وسرد الحيوان

تعودنا على السرد الذي يقدمه الإنسان كممثل عاقل وحيد عن الوجود، فيكون الشخصيات التي تحكي وتعبر وتصف وتستنتج وغيره. ولكن من غير المألوف أن تكون الحيوانات ساردة وإن كان الأمر قد تبلور مع ابن المقفع في “كليلة ودمنة” فإنه تطور لاحقا بعد “مزرعة الحيوان” لجورج أورويل لتصبح للحيوانات أصواتها الخاصة التي تحكي بها سيرها، لا مجرد أقنعة للبشر.
على الرغم من الأشواط المهمة التي قطعها منظرو السرد غير الطبيعي خلال العقدين الماضيين في مجال السرديات الخيالية وفواعلها غير البشرية، وما تحصلوا عليه من مفاهيم ورؤى وتطبيقات، فإن ذلك لم يمنع المنظرين الأنجلوأميركيين من السعي نحو تناول تلك السرديات من نواح جديدة ومختلفة فنيا ومعرفيا.
من هؤلاء المنظرين ديفيد هيرمان الذي وجّه منذ بضع سنوات اهتماما ملحوظا نحو دراسة علاقة الإنسان بالحيوان واجترح علم سرد ما وراء الإنسان، وساهم معه في هذا المجال مجموعة باحثين آخرين منهم جويلا جاكوبس المتخصصة بدراسات الحيوان ولها مقالات في نظرية المعرفة الحيوانية وشعرية الحيوان ودراسات نقدية في النبات كما أسست شبكة الدراسات النباتية الأدبية والثقافية المتخصصة بدراسة أشكال الحياة غير البشرية من خلال دمجها مع العلوم الإنسانية البيئية واللاهوتية والجنسانية والتاريخية.
الحيوان وتحولاته السردية
يرى هيرمان أن "سرد ما وراء الإنسان" له طرائق خاصة في بناء السيرة الذاتية ووظائف السارد الحيوان بضمير الأنا
اجتمع هيرمان وجاكوبس في كتاب واحد هو “علم سرد الحيوان” 2020 بتحرير جويلا جاكوبس وتقديمها، وافتتحه هيرمان بدراسة مهمة عن أوتوبوغرافية سرد الحيوان. والكتاب صادر عن جامعة أيرزونا ويأتي ضمن مشروع MDPI المشترك بين جامعات عدة، منها ووهان وبرشلونة وبازل وطوكيو ومانشستر وبلغراد وتيانجين. ويتضمن الكتاب، المؤلف من أكثر من أربع مئة صفحة، دراسات نقدية كتبها أربعة وعشرون باحثا وتدور حول السرد والبيئة والحيوان والترجمة وتنوعت تطبيقاتهم الإجرائية ما بين النصوص الأدبية والميديا والأفلام.
وتؤكد جاكوبس في مقدمتها المعنونة بـ”مقدمة لعلم سرد الحيوان: تصوير السرد الحيواني” أن النظر إلى السرد كخصيصة بها يتميز الإنسان عن الحيوان، أمر معتاد في الأدب العالمي بدءا من الحكايات الخرافية وانتهاء بالقصائد الرومانسية والمحاورات الفلسفية، بيد أن من الممكن للحيوان أن يكون ساردا قصة حياته وواصفا عالمه، وعادة ما يكون البشر جزءا من هذا العالم، ولا فرق في ذلك إن كان الحيوان أليفا أو وحشيا. وفي هذه الحالة لا يكون هناك تميّز في الأقوال السردية بين الإنسان والحيوان.
وتشير الباحثة إلى أن الدراسات الأدبية السابقة ركزت على الإنسان ودوره في بناء هذه النصوص، وأن دراسات السرد الحيواني، على شحتها وتفرقها، كانت وما زالت موجهة نحو سد الفجوة المعرفية في الدراسات الكلاسيكية حول دور الحيوانات في السرد. ولم يظهر اهتمام بتصنيف النهج أو رسم صورة واضحة للحيوان السارد وتحديد التقاليد الأدبية المتبعة في توظيف هذا السارد وكيفيات استعماله للتقانات الفنية كالحوارية والتبئير والتأطير والتخييل والاستعارة والواقعية والموثوقية والتمثيل والتسلسل والتزامن والبنية والتشويق والرمزية وما إلى ذلك. وهو ما تسعى الدراسات الحالية إلى التركيز عليه والتشديد على ضرورة أن تؤخذ أدوار الحيوان وتحولاته السردية على محمل الجد.
ويشير تاريخ السرد الحيواني إلى أن المؤلفين كانوا يختارون كتابة قصص الحيوان لغرض الهجاء السياسي والتعبير الرمزي لتجنب الرقابة والاضطهاد مختفين وراء الحيوان ليكون هو المعبر عن دواخلهم، لكن فاعلية الحيوان يمكن لها أن تتجه اتجاهات مختلفة وجديدة، تدفع الباحثين نحو المزيد من البحث في دور الحيوان في الأدب وما قد يتطلبه مثل هذا البحث من تعددية معرفية، تجمع بين السرد والعلوم الإنسانية ومسائل البيئة وقضايا العرق والهوية والجنسانية وغيرها.
وتستعرض جاكوبس في مقدمتها ملخصات الأبحاث المشاركة في الكتاب وهي ذات أبعاد متعددة الأوجه فمنها ما يتعلق بالحيوان ساردا مباشرا أو بالنيابة، ومنها ما يهتم بوجهات النظر وما تمنحه للقراء من فرص لتوسيع مداركهم وفهم أنفسهم والآخرين.
وتعد جاكوبس دراسة ديفيد هيرمان (أتوبوغرافيا الحيوان أو سرد ما وراء الإنسان) بمثابة نقطة مرجعية لكل المساهمات البحثية التي تلتها، ففي هذه الدراسة، وضع هيرمان معايير السرد السيري الذي يتجاوز نطاق الإنسان إلى الحيوان وأنماط هذا السرد وآليات تحليله. وجاءت دراسته على رأس الدراسات التي اشتمل عليها هذا الكتاب، واندرجت في القسم الأول منه والمخصص لمفاهيم علم سرد الحيوان. ومن المفاهيم التي وظفها هيرمان في هذه الدراسة “السارد الحيوان، التخييل واللاتخييل، أدب الأخلاق، سرديات الذات”.
وطرح هيرمان في مقدمة الدراسة أسئلة حول الكائن الحي والتمثيل السردي لذاته وإلى أي مدى يمكن للحيوان التعبير عن ذاته؟ وإذا كانت السيرة الذاتية نوعا سرديا، فهل تكون سيرة الحيوان الذاتية بالضرورة مشروعا سرديا خياليا؟ وهل يكون للقصص غير البشرية أساليب، بها يتمكن الحيوان من استخدام لغة البشر في راوية قصة حياته؟
يرى هيرمان أن التهجين إحدى الطرق التي معها لا يختلف خطاب السيرة الذاتية للحيوان عنه في الإنسان. وإذا قيل إن السيرة الذاتية ليست خيالية لأنها تقص قصة حياة واقعية أي أنها تخبر عن شخص “حقيقي”، فإن الحتمي أيضا هو أن تكون الخيالية عنصرا مهما في بناء النص السيري وكشكل من أشكال تشكيله الذاتي.
ومثال هيرمان أفلام الرسوم المتحركة الموجهة للأطفال وفيها يكون الارتباط العاطفي وثيقا بينهم وبين الحيوان الذي يسرد قصة حياته الصعبة. وهذا ما يضع أسسا سردية جديدة تتجاوز البشر بشكل عام وتخلخل الأطر المرجعية للسرد الذي يتمحور حول الإنسان. ولا يعود كافيا من ثم تصنيف الحيوانات وأنواع أخرى من الفواعل السردية على أنها عناصر غير بشرية. وهو ما يراه هيرمان تصنيفا سطحيا لأنه يمنع من رؤية ما في هذه الأنواع من الفواعل من أهمية، وما لها في الأنطولوجيات الثقافية من مساحة أدبية واسعة تدخل في إطار تمثيل عالم ما وراء الإنسان.
سرد ما وراء الإنسان
إن تمييز السارد الحيوان عن غيره من أنواع الساردين البشريين في كتابة السيرة الذاتية يعني عبور الحدود المعهودة بين الخيال والواقع عبر اتباع إستراتيجيات بديلة تعمل على مستوى الخطاب السردي كلغة ووجهات نظر وتمتد إلى ما هو أبعد من نطاق الإنسان.
ومن أجل إعادة صياغة السرد غير البشري والعثور على موطئ قدم في التنظير لهذا النوع من السير الذاتية، يقترح هيرمان النظر إلى التفاعلات السردية التي تجري وجها لوجه وتصطف فيه بانتظام الفواعل بعضها مع بعض في عملية إنتاج الكلام واستقباله من أجل معرفة طبيعة التفاهمات المشتركة بين المتكلم والمتلقي في خضم ما يجري من أحداث أو حوارات أو وجهات نظر.
غير أن مفهومي المتكلم والمتلقي هنا ليسا دقيقين، كما يرى هيرمان، للتعبير عن سرد فيه الإنسان مشارك في خطاب يسرده فاعل حيوان، له مشاعر يعبر عنها وألفاظ ينطق بها ومن خلالها يشير رمزيا إلى أفكار أو معتقدات بعينها ويستعمل ضمير الأنا وأفعال الاستشراف والتمكين (“سوف / يمكن”)، وأفعال الشرط وأدوات الاستفهام ويفسر ويصحح ويعلق موجها خطابه إلى متلق بشري مشارك أو غير مشارك وضمن إطار تفاعلي شبيه بما يفعله الناس حين يتحدثون مع بعضهم بعضا، مباشرة أو بالنيابة، عن شخص آخر.
يقول هيرمان “إن السيرة الذاتية الحيوانية تركز على الوضع العام الهجين للسيرة الذاتية نفسها، مستفيدة من طبيعة البنية السردية، ومرونة ما يمكن استعماله فيها من أساليب – واقعية وغير واقعية – مما يتصل بوصف أحداث عالم قصصي معين”، ويرى هيرمان أن دراسة هذا النوع من السيرة الذاتية التي فيها تتقاطع أنواع الكلام، تتطلب واحدا من منهجين أو الاثنين معا وهما التأطير والتأسيس، وفي نوعين من السيرة الذاتية هما: أولا: سيرة الحيوان الذاتية غير الخيالية وفيها يركز الكلام في المقام الأول على الواقع المعيش كتجارب حياتية وأنماط سلوكية هي معتادة بالنسبة للحيوان السارد بعيدا عن الترميز والألغاز ويكون منهج التأسيس هو المتبع في دراسة هذه السيرة بوصفها مختلفة تماما عن النموذج البشري. ثانيا: سيرة الحيوان الذاتية الخيالية وفيها يكون الكلام عن تجارب الحيوان الحياتية ترميزيا، ويصلح مع هذه السيرة منهجا التأسيس والتأطير.
تاريخ السرد الحيواني يثبت أن المؤلفين كانوا يختارون كتابة قصص الحيوان لغرض الهجاء السياسي والتعبير الرمزي
اتخذ هيرمان من المجموعة القصصية “الحيوانات فقط” only the animals)) 2014 للكاتبة الجنوب أفريقية سيريدوين دوفي (1980- ) مثالا تطبيقيا للسرد السيري الذي فيه الحيوان هو السارد الذي يحدد للإنسان فاعليته ويتولى توجيهه. وفي كل قصة من هذه القصص يسرد الحيوان قصة حياته بعد وفاته، واصفا المواقف والأحداث التي مرت به على مدار حياته وصولا إلى لحظة السرد الحالية، وخلال ذلك السرد، تكون العلاقة مزدوجة أو ذات طبقات ما بين المؤلف الذي كتب النص، والسارد الحيوان الذي يحكي تجربته وتجارب الأشخاص الذين عرفهم وكانت له علاقات بهم وتواصل معهم وجها لوجه، وما يرافق ذلك من ردود أفعال وسياقات كلام تتطلب من هذا السارد شرحا أو تبريرا أو تمثيلا سرديا.
إن مثل هذه القصص غير الواقعية توسِّع نطاق التخمين حول ما قد يقوله الحيوان – الذي له ثقافة مختلفة وقد يكون قادما من عالم خارجي إلى كوكب الأرض – عن شؤون حياته مسترجعا أو مستبقا الأحداث ومظهرا نفسه بشكل واقعي وإنساني كسارد ذاتي يقدم وصفا خياليا، سواء تمكن بكلامه من عبور حدود النوع البشري أو لا. وهذا هو “سرد ما وراء الإنسان” وله طرائق خاصة في بناء السيرة الذاتية ووظائف السارد الحيوان بضمير الأنا، ويرى هيرمان أن في هذه الطرائق ما يفتح المجال للمزيد من الأبحاث حول الفهم الثقافي للحيوان والتفاعل بينه وبين الإنسان.
ويختم هيرمان دراسته بدعوة الباحثين إلى أن يتوجهوا نحو “علم سرد ما وراء الإنسان” أولا لما تجسده السيرة الذاتية من أنواع مختلفة من الكلام البشري وما بعد البشري، وثانيا لتقاطع سيرة الحيوان الذاتية في مفاهيمها وأبنيتها وعلاقاتها مع الوضع السردي المعهود للسيرة الذاتية التي يكون فيها المؤلف والسارد بشريين. وثالثا لما تحتاجه السيرة الذاتية المنسوبة إلى رواة غير بشريين من أطر بحث تناسبها من ناحية اللغة وتحليل الخطاب وتحديد الوظائف وافتراضات أخرى أوسع تتعلق بصفات الحيوانات وقدراتها.
ولا شك في أن هذا العلم الجديد هو جزء من مشروع هيرمان في تطوير علم السرد ما بعد الكلاسيكي، ويتطلع فيه إلى الإجابة عن أسئلة علماء السرد حول طبيعة العلاقة بين الإنسان والحيوان وحدودها ضمن المحيط الحيوي العام، وما لتعدد التخصصات وتبادل المعارف ما بين الفنون والعلوم الإنسانية ومنهجيات التحليل البنيوي والسياقي من دور في الاقتراب من فهم تلك العلاقة فهما ثقافيا.