"دياغنوستيك"

فوجئت بجاري السمكري يخرج من حقيبته سماعة طبية حين جاء ليعالج تسربا مائيا في غرفة الاستحمام.
تسرعت في السؤال عن جدواها فقال باقتضاب “دياغنوستيك”، أي “تشخيص”، ثم وضع السماعات على أذنيه وأشار بإصبعه على فمه أن اسكت ثم راح يتفحص الحائط.
وما هي إلا لحظات حتى صاح مبتسما “عرفت موقع الداء”. وضع سماعته الطبية على كتفه، تماما كما يفعل الأطباء المناوبون ثم ضرب بمطرقته على السيراميك فكسره وقال: هات أجرة التشخيص، ولا تجادل معي كعادتك.
ـ أكمل الشغل وسأعطيك أجرتك كاملة يا علي.
ـ التكسير وإعادة التعمير ليست مهنتي.. الطبيب الذي يشخص المرض ليس هو من يقوم بالعملية الجراحية.. أليس كذلك يا فهمان؟
قبض علي أجرته مفرغا جيبي من النقود ومضى يمشي ملكا بسماعته الطبية وتركني مع حيرتي وشظايا السيراميك المكسور.
هذه المرة جاء علي، ومن دون سماعة طبية، ليصلح جهاز تسخين الماء.
كان مقتضبا في أسئلته التشخيصية مثل أي طبيب حاذق ثم بدأ بـ”الدياغنوستيك” فاعتلى طاولة مكتبي في المطبخ غير عابئ بما فوقها من أوراق بل ودهس على بعضها، واستعمل الآخر لمسح وتنظيف المواسير النحاسية.
وفي كل مرة يشغلني علي كصبي مساعد في فتح الماء وغلقه، وكذلك الحمل والشطف والتسنيد والتجريب وهو يستعجلني ويوبخني في كل مرة إلى حد الزجر، مشعرا إياي أني أشتغل أجيرا عنده فعلا.
أنهى جاري السمكري عمله بعد إعلان نجاح العملية وهو يمسح يديه بورقة كنت أدوّن عليها بعض الملاحظات التي تلزمني في الكتابة.
فتح باب البراد ليتفحصه إن كان يعمل بشكل جيد فمد يده إلى كل ما تقع عليه عيناه من فواكه وأجبان ملتهما دون أن يكلف نفسه مجرد الاستئذان.
ربما حجته في ذلك أنه يعتبر نفسه صديقي، على الرغم من أنه لا يتنازل عن فلس واحد من المبلغ الذي يحدده كأجرة، ومع ذلك يقول لي دائما بأني “سبيشل” و”كول” و”سامباتيك” وهلم جرا من المفردات الأجنبية التي يحبذ استخدامها في حديثه.
الأبعد من ذلك أن علي، بدأ يتمادى في الخوض بالخصوصيات وصلت حد السؤال عن راتبي.
وعندما تصديت إليه بغضب ووبخته على هذه الحشرية، قال إنه “يعتل همّي” كما يقول اللبنانيون، ويفكر كيف أتدبر أمري مع هذا الغلاء المعيشي.
وفي الأثناء، كان موبايل جاري السمكري لا يتوقف عن المكالمات القادمة من شتى الزبائن.
وبعملية حسابية بسيطة مني على ضوء ما يقبضه من أجرة – رغم أنه يعاملني بشكل “سبيشل” كما يقول – أدركت لماذا يمضي مختالا في مشيته بمحفظته اليدوية وسماعته الطبية.. ولماذا يتجرأ على الصعود فوق طاولة مكتبي ومسح يديه بورقة كنت أدوّن عليها أفكاري.