دوستويفسكي العاشق من زوجة صديقه إلى كاتبته التي أنقذته

تمر هذه السنة (نوفمبر 2021) الذكرى الثانية بعد المئة على ميلاد الروائي الروسي فيودور ميخايلوفيتش دوستويفسكي (1821 – 1881)، وقد جعلت اليونسكو من هذه المناسبة احتفالا كبيرا على مستوى العالم بالرجل، تقديرا لمكانته الأدبية؛ إذ غاص بإبداعه في أعماق النفس البشرية، كاشفا عن تناقضاتها، وعلى الرغم من معاناته في حياته الشخصية بسبب العوامل التي تكاثرت عليه كالفاقة والعوز والمرض وقبلها الحبس في سجن سيبيريا، إلا أن رسائله (ترجمها خيري الضامن في جزأين) كشفت عن جانب آخر من شخصيته، وهو العاشق.
تفيض رسائل فيودور دوستويفسكي محبة وتولها بالمحبوب. فكما يقول مكسيم غوركي “كان قلب الكاتب الروسي ناقوسا للحب، وصوتا جبارا تسمعه كل القلوب الحية في البلاد”. ومن شدة ما عاناه من ويلات الحب، يصوغ فلسفته هكذا “فرحة الحب عظيمة، لكن المعاناة فظيعة، والأفضل للإنسان ألا يحب أبدا”.
وقد مر دوستويفسكي في حياته بثلاث تجارب عشق، الأولى كانت مع ماريا إيساييفا، وهي كانت حبه الأول الكبير. امرأة مثقفة والدها ديميتري كونستان مدير الجمارك في أستراخان، كانت ماريا متزوجة من معلم شاب اسمه ايساييف مدمن للشراب، بحكم وظيفته كان ينتقل من مكان إلى مكان، حتى استقر الحال بهما (هو وزوجته) في هذه المدينة النائية، وسرعان ما انعقدت أواصر الصداقة بين دوستويفسكي والمعلم الشاب، إلا أن دوستويسفكي تحول إلى الإعجاب بزوجته الشقية، إذ كان يشعر إزاءها بشفقة كبيرة.
لم يجد بدا إزاء حائل الزوج إلى أن تكون له “حبا أخويا”، لكن الحب استبد به، وتحول إلى هوى جامح، وما إن انتقل الزوج إلى مكان آخر للعمل، حتى تمزق قلب دوستويفسكي للفراق. فأرسل رسالة لها بتاريخ 4 يونيو 1855 يخبرها بما اعتراه من وحشة وآلام بسبب فراقها، فبغيابها، حسب عبارته، تيتم هنا، بل صار الوقت في غيابها “أشبه بالسجن كالفترة التي اعتقل فيها عام 1849، وعزلوه عن كل ما هو عزيز”، إلا أن القدر يلعب لعبته، فيموت الزوج، وتأتي الفرصة لدوستويفسكي الذي كان وصديقه إلكسندر فرانجل يمدان لها العون هي وابنها الصغير ثم بعد فترة عرض عليها الزواج، فقبلت مع أنها لم تكن تحبه.
حب جامح
في رسالة بتاريخ 22 ديسمبر 1856، إلى أخيه ميخائيل، يسرد له فيها تفاصيل علاقته بماريا ومدى حبه لها، وإن كان مرر له، من قبل، اسمها ولمح إلى علاقته بها، في رسائل سابقة، لكن في هذه المرة يعلن صراحة حبه ورغبته في الزواج بها هكذا “إنني أحب امرأة اسمها ماريا ديمتريفينا عيسايفا”، وفيها (أي الرسالة) يحكي له كل ظروفها منذ أن تعرف عليها وما شعر به، ورحيلها مع زوجها، ثم وفاته، وما قام به من رعاية لها ولابنها، وهو ما أوقعه في ضائقة أخرى وديون تضاف إلى ديونه، ثم مراسلته لأسرتها.
أثناء زواجه بماريا، تعرف على فتاة جامعية اسمها باولين سوسلوفيا، ابنة رجل غني صاحب مصنع (وإن كان في الأصل قنا من أقنان أسرة تحمل لقب الكونت شيريميتيف) كانت الفتاة صبية غاية في الجمال، وإن كانت متسلطة الطبع، شديدة الحماس، كما أنها كانت ملحدة تعتنق المذهب الفوضوي، والعقيدة العدمية، تدعو إلى الحب الحر الذي لا تقيده قيود.
تولهت بدوستويفسكي وأرسلت له رسائل الإعجاب والحب، ثم أخذت تعاونه في المجلة التي يصدرها مع أخيه ميخائيل، وعلى الرغم من اختلاف طبيعته مع طبيعتها، إلا أنه يقرر السفر معها، لكن لظروف المجلة يتأخر عنها، فتسافر إلى باريس وهناك لا تضيع الوقت، فترتبط بشاب إسباني غني، ويفشل دوستويفسكي في قطع علاقتها به، فيعود حسيرا، إلا أن الشاب يتركها، فتعود مرة ثانية إلى دوستويفسكي ويسافران معا إلى إيطاليا، ثم جنيف وروما فنابولي، وتستمر هذه الرحلة ستة أسابيع، لكن ما تلبث أن تنطفئ جذوة الحب بينهما وتتحول إلى كره متبادل، فيهجرها ويعود إلى زوجته التي كانت الغيرة قد استبدت بها مع اشتداد المرض عليها.
المنقذة من الألم
التجربة الثالثة كانت بعد وفاة زوجته ماريا، حيث كان في حاجة إلى عامل اختزال أثناء كتابة رواية “المقامر”، فحدث التعارف مع آنا جويجوريفنا (1847 – 1918) التي صارت زوجته وصاحبة الإسهامات في حياته.
علاقة دوستويفسكي بزوجته الثانية كما كشفت رسائله إليها ومذكراتها عنه، علاقة من طراز فريد، فهي كما وصفها “مساعدتي المخلصة وسلواي” فلم تكن مجرد زوجة بل كانت بالنسبة إليه “شخصية ضرورية: لا غنى عنها”.
رسائل دوستويفسكي إلى زوجته بمثابة يوميات له، يصف فيها كل ما يصادفه ويحكي فيها عن تفاصيله الخفية
يعترف لها في رسائله بمكانتها وحبه المتين لها، فهو بعيدا عنها يشعر “بالكآبة المؤلمة” قائلا “وها أنا مقتنع يا آنا أنني بعد اثني عشر عاما لا أحبك فقط، وإنما متيم بك وأنك سيدتي الوحيدة”، جمعهما فن الاخترال الذي كانت تجيده.
كما يدين لها دوستويفسكي بوجه خاص بأنها خلصته من سلطان المقامرة، وهو ما حداه لأن يعترف لها “سأظل ما حييت أذكر لك هذا، وفي كل مرة سوف أدعو لك يا ملاكي بالتوفيق، كلا أنا الآن لك كلية، لك تماما، أما قبل ذلك فكان نصفي ملكا لهذا الوهم الملعون”.
أما هي عند وفاته، فرفضت التسليم بموته، حتى في رسائلها كانت تؤكد على صعوبة تصديق فكرة الغياب فتقول لصديقتها صوفيا أفيركييفا “أعود بذكرياتي إلى السنوات السعيدة التي مضت، ولا أستطيع أن أصدق أنها لن تعود ثانية، لا أستطيع أن أسلم بفكرة أنني لن آراه، ولن أستمع إلى صوته مرة أخرى…”.
بدأت علاقتها به منذ أن حدث اللقاء الأول بينهما، وإن كانت قرأت له بعض أعماله كمذكرات من بيت الأموات، قبل اللقاء الفعلي الذي حدث عندما تم ترشيحها من قبل أستاذها أولخين (مدرس الاختزال) لتعمل معه كمساعدة في كتابة إحدى رواياته، وما إن حدث اللقاء (في الرابع من أكتوبر 1866) حتى تم التقارب بينهما، وقد أثار إعجابها الشديد، الود الذي سرى بينهما جعله يكشف عن “صورة حزينة ما من صور حياته”. وما إن بدأت العمل معه، حتى شعرت بالحزن الثقيل، لما رأت عليه الأديب في صورة «إنسان تعيس هجره الجميع» وهذا الشعور كان بداية التعاطف العميق والأسى البالغ عليه.
تسرد آنا عن بداية العلاقة بينهما، وعن حيلته للارتباط بها، وعن الصراحة التي أبداها في الحديث معها، بتفاصيل دقيقة عن حياته الشخصية وعن سجنه في قلعة بتروبافلوسك، وعن خطبته للكاتبة آنا فاسيلفينا كورفين – كروكوفسكايا، وتراجعه عن الاستمرار في الخطبة بسبب التناقض بين أفكارهما. وبعد انتهاء عملها، طلبها للزواج، وهو ما أثار حفيظة أقاربه (وأقاربها بسبب فارق السن بينهما) وخصوصا زوجة أخيه ميخائيل ميلينا، وابن زوجته الأولى بافل، فقد عاملاها بعداء شديد وكأنها عدوة.
وقد اعترف الكثيرون من معاصري دوستويفسكي بالدور الذي لعبته آنا في حياته، وكيف أنها كانت بمثابة المخلص من آلام وعذابات المرض، فـ م. إلكسندروف وهو صديق لهما كان كثير التردد على بيتهما، يقول “استطاعت آنا على وجه التحديد أن تحيط صحة
زوجها المعتلة بالرعاية التامة”، وأن تضعه حسب تعبيره “على أكف الراحة كما لو كان طفلا، كما أظهرت كثيرا من اللين والتساهل في معاملتها إياه ممزوجا باللباقة المهذبة، وأستطيع أن أقول بكل ثقة إن فيودور ميخايلوفيتش وأسرته، وعلى نفس الدرجة أيضا كثيرا من المعجبين به، مدينون جميعا بعدد من سنوات عمره لها”.
الموضوع الأساسي لمذكرات آنا “مذكرات زوجة دوستويفسكي” (ترجمها أنور محمد إبراهيم، المشروع القومي للترجمة القاهرة، 2015) ليس الزوجة وإنما الزوج، فهي تأتي في المرتبة الثانية بعد “رب الأسرة والزوج الذي يهيم عشقا برفيقة عمره والأب الرؤوم”، هي في الظل تقوم بدور الزوجة المتواضعة كاتبة السيرة، تكتب عن أحزانه أكثر مما تكتب عن أحزانها.
أصل هذه المذكرات هو اليوميات الغامضة، والتي قال عنها دوستويفسكي “أدفع أغلى ما عندي لأعرف يا أنيتشكا (لقبها عنده) ما الذي تعنيه بصنانيرك هذه التي تخطينها: لعلك تشتمينني”، وأحاديث آنا مع زوجها، لكن دون أن تنقل كل ما في يومياتها إلى المذكرات، وإنما اعتمدت على الانتقاء، إزاحة ما رأته تافها، حافظت آنا في مذكراتها على طبيعة مشاعرها، وما تكنه من حب ونفور لبعض الشخصيات، وهذا واضح في علاقتها بابن زوجة دوستويفسكي السابقة. كما تسرد الكاتبة عن رحلاته، وعلاقاته بأصدقائه ومراسلاتهم، وعن اللقاء الذي ظل مرتقبا بين تولستوي ودستويفسكي.
عشق بلا حدود
أما الرسائل التي جاءت في جزأين (وقد ترجمها خيري الضامن، دار سؤال) فيخص دوستويفسكي آنا بالكثير من الرسائل، ويخاطبها دوما بعزيزتي وصديقتي المـخلصة، وتارة بعزيزتي آنيتشكا، يرد أول مرة اسم آنا جويجوريفنا في رسائل دوستويفسكي، تحديدا في الجزء الثاني في رسالة إلى نيكولاي لوبيموف المحرر التنفيذي لمجلة “البشير الروسي”، في ملحوظة عقب الرسالة، حيث يخبره بأنه استأجر كاتبة اختزال (دون أن يحدد اسمها)، ثم ترد باسم آنا سنيتكينا قبل الزواج.
هناك جانب آخر لدوستويفسكي حيث تكشف رسائله عن شخصية محبة عطوفة مخلصة يرى في محبوبته خلاصه من الأذى
محور الرسالة يكشف عن طبيعة الثقة التي أولاها لها، فيتحدث عن طبيعة خلافاته مع مجلة البشير الروسي، وكيف انتهى إلى توليف أوضاعه، ثم يعدها في نهاية الرسالة بما ينتظرهما من مصير فـ”النقود متوفرة، وسنعقد القران بأسرع ما يمكن” وبعدها يخبرها بأنه سيلتحق بها في بطرسبورغ، وينهي رسالته بتمني أن يعانقها ويقبلها فكما يقول “أقبل يديك الرقيقتين وقدميك اللتين لا تسمحين لي بتقبيلهما”.
ويقول لها بعد توقيعه الرسالة بالمخلص زوجك السعيد “يستحيل ألا يكون الرجل سعيدا مع مثل هذه الزوجة! أحبيني يا آنا وأنا أحبك إلى الأبد”، وأحيانا يوقع بالمخلص لك بكل شغاف الفؤاد. ومرات كثيرة يردد هذه الصيغة التي تكشف عن محب وله، هكذا “أقبلك حتى آخر ذرة، وخصوصا قدميك الرائعتين. أنت سيدتي الآمرة الناهية، أنا لا أستحقك، لكنني أؤله زوجتي الحبيبة، ولن أتنازل عنها لأحد، ومع أنني لا أستحقها”.
ثم تبدأ الرسائل اللاحقة في إظهار الحميمة بينهما فيخاطبها في رسالة من هامبروج بتاريخ 5 مايو 1867، هكذا “مرحبا يا ملاكي الحبيب، أعانقك وأقبلك بحرارة، طول الطريق كنت أفكر فيك”، ويكتب لها بعد وصوله مباشرة، مظهرا افتقاده لها، وندمه على أنه تركها وحيدة. ومن شدة إظهار ولعه لها يقول “أدركت أنني لا أستحق مثل هذا الملاك المكتمل الشفاف، الهادئ الوادع الرائع العفيف الذي يثق بي”، ويعتبرها عطية من الله كي يكفر بها عن خطاياه الشنيعة.
يتابع رسائله إليها واصفا متاعب الرحلة والبرد الذي تعرض له، ووحشته وافتقاده إليها. كما يحكي لها مقامراته، وخسارته لبعض النقود، وفي إحدى رسائله بتاريخ 9 مايو يصف لها حزنه الشديد عندما ذهب إلى مكتب البريد دون أن يجد رسالتها. يقول له صراحة “أنا لم أتعذب يوما، أبدا، لهذا الحد (يقصد عدم عثوره على رسالتها في مكتب البريد)، ولم أرتعب كما حصل لي يوم أمس”. ويطلب منها بعدما خسر نقوده في المقامرة، أن ترسل له النقود كي يعجل بالرحيل من هذا المكان، كما أوصاها بألا تطلع أحدا على رسالته كي لا يرى هذه الصورة المزرية عنه. وفي نهاية الرسالة يعتذر لها عن جراء تعذيبه لها، ويشرح لها معاناته مع عادة لعب الروليت، وكيف أنه يجاهد كثيرا كي لا يعود إلى طاولة الروليت، لكن كل مقاومته تنهار، ويفقد ما لديه.
يتكرر الاعتذار والأسف، بل وطلب السماح منها على كل “العذابات والانفعالات التي سببها لها”، ثم كالعادة يذكر لها ندمه على عدم أخذها معه، ويخبرها بأنه يخشى الحديث عن المستقبل لأنه بالنسبة إليه مجهول، ويعول على أن “الرب سينقذنا على أي حال”. كما تكشف الرسائل حالة الضعف التي يبدو عليها دوستويفسكي، سواء بسبب إدمانه للقمار، ورغبته التي لا يستطيع مقاومتها للعب، مع معرفته بالخسارة، وأيضا بسبب ضعفه أمام ناشريه، واستكانته لابتزازاتهم له، والأهم ضعفه أمام نفسه وخشيته أن يظهر أمام الآخرين بمظهر السفيه الدنيئ، لذا يشدد عليها بألا تطلع أحدا من أقاربها برسائلهما. وفي الرسائل يشتكي لنيكولاي ستراخوف من حالة الكتابة تحت ضغط الموعد، لذا يتمنى أن يكون حرا مثل “تولستوي وتورغينيف وغونتشاروف” غير مقيد بموعد مفروض عليه.
وعندما يعلم بمرضها وهو في بروسيا، يعتريه الحزن، لدرجة أنه يؤنبها، ويشاطرها ألمها قائلا “فؤادي يتألم لك، فكرت هنا في كل معاناتك في عملك…” وفي غمرة ألمه يعترف بحبه لها قائلا “لقد وقعت في غرامك، يا آنيا، لدرجة لم تبق في ذهني أي فكرة سواك”.
وفي رسالته إلى صوفيا إيفانوفا يأتي ذكر آنا، وحياتهما معا فيقول “أنا مع آنا جريجوريفنا في عزلة رهيبة”. تظهر الرسائل ثقة دوستويفسكي في زوجته بل يعتبرها موضع ثقة مطلقة؛ فيحكي لها تفاصيل كتاباته وعلاقاته بالناشرين، وأيضا شغفه أمام المقامرة، وهروبه من الدائنين، وفي نفس الوقت يظهر خوفه عليهم (هي وأبناؤه) وسعيه لتأمين حياة سعيدة قدر استطاعته لهم.
تغدو الرسائل إليها بمثابة يوميات له، يصف فيها كل ما يصادفه في يومه، فيرسل لها رسالة عندما يصل مدينة إيمس في برلين، يبثها شعوره بالملل الذي تسرب إليه من المدينة، كما يعدها بأنه سوف يحكي لها عن بعض المواقف الطريفة التي حدثت في الطريق، يقدم لآنا تقريرا إنثروبولوجيا عن ألمانيا والألمان فهم: يتميزون بالخشونة وقلة الأدب، والشوارع الأحد تمتلئ بهم وهم في ثياب العطل والأعياد، بالإضافة إلى وصف لمشاهداته في المدينة وجولاته، وزياراته المختلفة إلى المتاحف والمسارح. والتغيرات التي حلت على سكانها بعدما صارت المدينة قبلة للأوروبيين، إذ تم تحويل منازلهم إلى فنادق، دوما يطلب منها في ختام رسائله بأن تهتم بنفسها وتحافظ عليها من المرض.
هكذا عرضت الرسائل لجانب آخر لدوستويفسكي، كاشفة عن شخصية محبة، عطوفة، مخلصة، يرى في محبوبته خلاصه من كل الأذى الذي لحق به، كما كانت (أي الرسائل) بمثابة يوميات غير مباشرة، اجتر فيها الكثير مما يعانيه من مشاغل حياتية وإبداعية، وما يؤرقه من آلام المرض، وثقل الديون وما نتج عنها من ارتباطات مجحفة متعلقة بالنشر والكتابة، كما ألمحت، في جانب مهم منها، إلى ما يتحلى به من مسؤولية على مستوى علاقاته بالآخرين، ومحاولته إسباغ الحب والعطف عليهم، ومشاركتهم آلامهم وظروفهم، وأيضا على مستوى مسؤولياته ككاتب ملتزم أمام نفسه أولا بالتعبير عن هموم الضعفاء / الفقراء منذ رائعته “الفقراء”، وثانيا أمام الناشرين بالوفاء بعهوده التي قطعها على نفسه، مجبرا بسبب الفاقة والعوز، معهم، مهما كلفه الأمر جهدا مضاعفا يوصل فيه الليل بالنهار، أو كتابته لعملين في نفس الوقت.
إذا كان دوستويفسكي يعتبر في إحدى رسائله "دون كيخوته" أعظم كتاب بعد الكتاب المقدس، فإنه، كما يقول الروائي عزت القمحاوي وهو أحد دراويشه، وبعد هذه المسافة الفاصلة بيننا وبين دوستويفسكي يمكن القول باطمئنان إن مئة وأربعين عاما تفصلنا عن رحيله لم تشهد مولد كاتب بحجمه.