دمشق يا أخت بغداد

لو تسنى للكاتبة الأميركية ديبورا آموس مؤلفة أحد أهم الكتب عن التطهير الطائفي في العراق أن قرأت قصيدة الشاعر عبدالرزاق عبدالواحد “شكرا دمشق” لوضعتها في متن كتابها بما يليق بواحدة من أروع القصائد عن مدينتين.
فديبورا التي مهرت الأجواء ما بين بغداد ودمشق منذ ثمانينات القرن الماضي عندما كانت مراسلة محطة “أي.بي.سي” الأميركية ألّفت كتابها عن بغداد في دمشق “أفول أهل السنة: التهجير الطائفي وميليشيات الموت وحياة المنفى بعد الغزو الأميركي للعراق” وعن مليوني عراقي لجؤوا إلى سوريا آنذاك كي لا يكونوا ضحايا الموت العبثي. وعبدالرزاق عبدالواحد وهو يكتب قصيدته “شكرا دمشق” كان في دمشق أيضا كأحد شهود التراجيديا العراقية في كتاب ديبورا، بينما بلاد النهرين تساق إلى لجة الجحيم وتتصاعد فيها المأساة “متى سيسدل الستار عليها؟”.
بوسعي الزعم بالقول أنا من بين الأوائل الذين قرأوا القصيدة، وأول من نشرها أثناء عملي في صحيفة “الزمان” اللندنية. مازلت أتذكر رسالة الراحل أبي خالد لي، “تلك القصيدة نوع من الوفاء لدمشق التي نعيش مطمئنين بين ظلال ياسمينها، هي دمشق أخت بغداد يا كرم، لا أشك باهتمامك بطريقة نشرها”.
لماذا أعود إلى هذه القصيدة اليوم بعد كل تلك السنين؟ لأنها عادت على ألسن العراقيين والسوريين من جديد بعد أن تمت استعادة سوريا المختطفة من ميليشيات إيران. لنكتشف أن الفنان سعدون جابر الذي كان في سوريا آنذاك أيضا مع ديبورا وعبدالرزاق، قد جعل من القصيدة ترنيمة شكر ووجع وتساؤل وهو يغرقها بعراقية مقام الحجاز ويغنيها بطريقة مقامية تليق بها. لم أكن أعرف أن القصيدة قد غنيت وبصوت سعدون جابر، حتى أعيد بثها من جديد مع الثورة السورية واستعادة دمشق من الخاطفين.
كذلك ينجح سعدون جابر في رهان إدخال صوته في أصعب المقامات العراقية، عندما فضّل أن ينتقي أبياتا من “شكرا دمشق” مغرقة بوجع عراقي ويختار لها “المدمي” كأحد أروع طرق التعبير الغنائية العراقية في مقام الحجاز.
الأغنية عادت اليوم لتذكّر العراقيين والسوريين معا بأخت دمشق كأخت بغداد! وكأن لا قدر للمدينتين إلا أن تكونا معا حتى إذا أراد التاريخ أن يرغمهما على التجافي قسرا.
ينطلق صوت سعدون جابر بالامتنان منذ البيت الأول “شكرا دِمَشقُ، وَلا واللهِ لا طَمَعٌ/ ولا ادِّعاءٌ، وَلا خَوفٌ، وَلا مَلَقُ” حتى يعبّر عن صوته بصوت الشاعر “يَشينُ مِن لُغَتي حَرفا فَيَثلمُها/ لو كانَ هذا فَليتَ النَّاسَ ما عَشِقوا”.
يتصاعد بعدها النداء في أداء مقامي في غاية التعبير ما بين بغداد المغرقة بالدماء وصوت دمشق “يا أختَ بغداد.. مليونان مِن بَلَدي/ في طُهْرِ أرضِكِ ما رِيعُوا، ولا رُهِقُوا/ بِنِصفِهِم ضاقَت الدُّنيا بأجمَعِها/ وأنتِ تَسمُو بِكِ الأرحامُ والخُلُقُ”!
من دون أن ينسى هنا محنته كعراقي يعيش مطمئنا في أرجاء دمشق وهو يعتذر لها “عُذرا دِمَشقُ.. أقِيلي عَثْرَتي فأنا/ أصبَحتُ مِن فَلَكِ الأوجاع أنطَلِقُ/ حتى امتُحِنتُ بصَوتي كيفَ أُطلِقُهُ/ وَكُلَّما قُلتُ: يا بغدادُ.. أختَنِقُ”.
اختار الفنان سعدون جابر أن يصوّر الأغنية في ميادين حاضرة الأمويين مصطحبا ابنه الصغير البِشرْ وهو ينادي بوجع لا يمتلكه إلا من قُدر له أن يكون عراقيا! “وَكُلَّما صِحتُ: يا أهلي.. رأيتُ دَمي على سَكاكين أهلي كيفَ يَندَلِقُ”!
عودوا إلى هذه الأغنية التي جمعت أوجاع شاعر العراق عبدالرزاق عبدالواحد وصوت سفير الغناء العراقي سعدون جابر، لتروا ما معنى ألا يكون أي قدر لبغداد إلا أن تكون أختا لدمشق، وإن أريد لهما غير ذلك!