دفاع عن المثقفين في مناخ كاره وطارد

كيف يُوجه اتهام بالانزواء والتعالي إلى محاصر؟ إذا ألف المثقف كتابا لن يقرأ نسخه المحدودة إلا أمثاله الحالمون الغاضبون، سارعت الشرطة إلى مصادرة الكاتب والكتاب.
الجمعة 2018/11/16
المثقف الحرّ لا يملك إلا صون ضميره

لا حضور للثقافة في الخطاب السياسي المصري. ولا أعرف النسبة المئوية للتمثيل المصري، وسط خمسة آلاف شخص من 160 دولة، استضافهم “منتدى شباب العالم” في منتجع شرم الشيخ (بين 3 و6 نوفمبر 2018). لا تهمني المعرفة؛ فالعدد قلّ أو كثر هو حاصل جمع ينصت ويصفق، لا ثمرة تفاعل يناقش. جمعٌ يُنتقى بعناية، وأما من ينتسب من هؤلاء إلى المثقفين فهو صنف مستأنس، لم يرث شيئا من جسارة شاب اسمه خالد محمد خالد وقف في مؤتمر حاشد، ليجادل جمال عبدالناصر في طبائع الحكم الديمقراطي، وضرورة تداول السلطة. ولكن شابا اسمه محمود ذو ملامح أفريقية أحرج الخائفين المشاركين بلُقمتهم، حين وجه إلى عبدالفتاح السيسي هذا السؤال: ما العمل مع من يصرّون على البقاء في الحكم إلى الأبد؟ فأجاب السيسي بما لا يخطر بخيال أساتذة مسرح العبث.

أقول قولي هذا وأستغفر الله للمغرضين والمغفلين، ولساقطي القيد من أشباه المثقفين، وقد أصابهم العجز عن التحقق الإبداعي والثقافي بالسادية، فانطلقوا يسخرون من المثقفين، ويلقون في وجوههم اتهامات بعضها يناقض البعض الآخر، من التعالي والانزواء والإفلاس وممالأة السلطة بالصمت، إلى التحريض على الغضب والدعوة إلى الفوضى وإثارة الفتنة وإرباك الرأي العام بالتشكيك في جدوى ما يسميه الإعلام الرسمي المشاريع الكبرى.

في الشق الأول من عرائض الاتهام (التعالي والانزواء والإفلاس وممالأة السلطة بالصمت) جهالة وعمى بصيرة. فلا يملك المثقف الحرّ إلا صون ضميره، وقول كلمة حق تضيق بها الآن منابر السلطة وملحقاتها من صحف وفضائيات رجال المال الدائرين في فلك الحكومة.

وفي ظل عنفوان السلطة عبر العصور لم يتردد المثقف في دفع الثمن، وبعد حظر غير معلن في وسائل الإعلام لأغلب المثقفين، لم يبق إلا أن يحمل أحدهم مكبر صوت، ويطوف في الشوارع، وهذا غير مضمون العاقبة بعد إغلاق دائرة المقاهي في وسط القاهرة، وإذا وجد جمهورا ينصت، فلن يسلم من الاتهام بالتظاهر من دون تصريح، وقد يسارع شرطي إلى تنفيذ حكم لم يصدره قاض، ويطلق رصاصة تنهي العمر وتفرّق المتظاهرين، اِتباعا لسنّة شرطي أحمق قتل “شهيدة الوردة”، شيماء الصباغ، وهي تحمل طوقا من الورد على رصيف، فأنهى مسيرة سلمية محدودة في يناير 2015.

كيف يُوجه اتهام بالانزواء والتعالي إلى محاصر؟ إذا ألف المثقف كتابا لن يقرأ نسخه المحدودة إلا أمثاله الحالمون الغاضبون، سارعت الشرطة إلى مصادرة الكاتب والكتاب في المهد/ المطبعة. وإذا لجأ المثقف إلى الحيلة الأخيرة، ونشر رأيا في صفحته الفيسبوكية، فلا يسلم من انقضاض الأفاعي من مخابئها الصحافية.

في أغسطس 2018، كتب أستاذ القانون نور فرحات منتقدا قانون الضريبة العقارية ووصفه بأنه غير دستوري، فسارع مأفون بكتابة عمود في صحيفة “الأهرام” أشبه ببلاغ يتهم الرجل بأنه “تسبب في فتنة جماهيرية”.

لا يضطر المثقف بعد سن السبعين، إلى إثقال ضميره بالمناصب، فلا يتسع عمره الباقي إلى تسديد ثمن هذه الفواتير ويضطر إلى اللهاث لملاحقة مهرجانات السلطة بالمقالات

وذكّرني هذا الحرقان برد فعل مأفون آخر، في الشهور الأخيرة لحكم الرئيس الأسبق حسني مبارك، وقد أزعجه اقتراح محمد حسنين هيكل إنشاء “مجلس أمناء الدولة والدستور” برئاسة مبارك وعضوية شخصيات بارزة. وكتب في 21 أكتوبر 2010 في صحيفة “الأهرام المسائي” متهما هيكل بتدبير انقلاب على الشرعية، وأنه “المخرّف السياسي الأكبر يضع نفسه تحت طائلة القانون… أيها الإله الزائف.. أنت تدعو للرثاء والإشفاق.. أنت تحتاج إلى بطانية زيادة تتغطى بها في ليل الخريف”. وفي اليوم التالي كتب عمودا يصف فيه هيكل بأنه “مجنون… قدوته السياسية الحاقد حسن نصرالله… مجنون برقاش.. يدعو القوات المسلحة إلى رعاية الانقلاب الذي يخطط له وهو يتعاطى سيجارا من بانجو مخلوط بالحشيش. مجنون برقاش يسير على خطى الشيطان.. يهذي على الملأ ويدعو الشعب للعصيان.. يتجرأ على مقام القوات المسلحة الطاهرة ويناديها أن تشارك في مؤامرته الفاجرة… مجنون برقاش، مرحبا بك في السراية الصفراء”.

يوجد أيضا مثقف آمن ومأمون الجانب، يتكيف مع كل سلطة، ويتفادى الصدام بكل أشكاله بما فيها عتاب التابع للمتبوع. بعد قيامة الشعب في “جمعة الغضب”، 28 يناير 2011، والتأكد من سقوط حكم مبارك، ظل جابر عصفور آخر من يراهن على “حكمة” مبارك، وقال في التلفزيون مساء 30 يناير 2011 “لا يوجد مصري عاقل ضد الرئيس مبارك”، وفي اليوم التالي اختير وزيرا للثقافة، فكان آخر وزير في عهد مبارك، وأصبح أول وزير للثقافة في عهد السيسي.

لا يضطر المثقف، وخصوصا بعد سن السبعين، إلى إثقال ضميره بالمناصب، فلا يتسع عمره الباقي إلى تسديد ثمن هذه الفواتير، ويضطر إلى اللهاث لملاحقة مهرجانات السلطة بالمقالات، كما يفعل يوسف القعيد قبل تعيينه نائبا في البرلمان في ديسمبر 2015، وبعد ضمه إلى “مجلس جامعة القاهرة للثقافة والتنوير” في أغسطس 2017، فيتكرر اسم السيسي في مقالاته أكثر من اسم الله في علاه. في 31 يوليو 2017 كتب في “الأهرام” متسائلا “لماذا نطلب من الرئيس أن يعلن ترشحه لولاية ثانية؟ أو أن يتحدث عن نيته في الترشح لولاية ثانية؟ لماذا لا نطلب منه نحن ذلك؟.. ونقول له إن ترشحه فرض عين، من أجل أن يكون لهذا الوطن مستقبل”.

وفي 20 نوفمبر 2017 كتب القعيد مقالا عنوانه “كيف تتكامل مؤتمرات الشباب والمنتدى الدولي؟!”. دعك الآن من غرامه بعلامات التعجب، وهو بالطبع لا يسخر من مؤتمرات للشباب بدأت بشرم الشيخ في أكتوبر 2016، ثم طافت بأسوان في يناير 2017 والإسماعيلية في أبريل 2017 والإسكندرية في يوليو 2017، ثم عادت إلى شرم الشيخ في نوفمبر 2017 في صيغة “منتدى دولي”.

وكرر القعيد اسم الرئيس كثيرا “تبنى الرئيس عبدالفتاح السيسي فكرة المنتدى”، “قال الرئيس عبدالفتاح السيسي… مخاطبا الشباب بما يمكن اعتباره دستورا للعمل الشبابي، سواء لشبابنا أو لشباب العالم”، وكانت “مفاجأة الرئيس عبدالفتاح السيسي في الكلمة الختامية… إعلانه عقد المنتدى الثاني للشباب في نوفمبر المقبل، نوفمبر 2018″. مفاجأة لم تفاجئ إلا القعيد.

المفاجأة في منتدى 2018 هي سؤال بالفرنسية للشاب محمود عن الحل في الذين يريدون البقاء في الحكم إلى الأبد؟ واستمع السيسي إلى ترجمة السؤال، وتكفي الإجابة لإصابة السائل وغيره بالذهول، إذ دمّر السيسي فكرة السؤال، وفجّره من الداخل “ما فيش أبد، الأبد ينتهي بعمر الإنسان، يعني ما فيش أبد، يعني ما فيش في المطلق، يعني ما حدش هيقعد 100 سنة و200 سنة”. إجابة ناقلة لعدوى الخرس، فلأصمت.

9