دفاعا عن الخطأ

أجمل أنواع فنون النحت والأدب والحياكة والمعمار هي تلك التي يطرّزها خطأ تشريحي أو لغوي أو تطبيقي أو هندسي.
الثلاثاء 2023/11/14
من لم يخطئ منكم يا معشر بني الإنسان الذي بني على النسيان؟

ما من فرد في مجتمعاتنا إلا ويسدد سهام اتهاماته كل يوم إلى الآخرين، ويتهمهم بالغش والتقصير والجهالة وفساد الأخلاق.

تلتفت حولك وتسأل: أين الخطاؤون والفاسدون إذن؟

يُخيل لك أنهم أشباح، وذلك على كثرة تذمر كل فرد من بقية قومه وكأنه “صالح في ثمود”.

النتيجة التي سوف تخرج بها هي أن كل الناس أشرار، وكل الناس أخيار على حد سواء، وذلك وفق ما يفضي إليه منطق التراشق بالاتهامات وادعاء واحتكار كل فرد الفضيلة لنفسه ونفيها عن الآخر، حتى بات الواحد يشعر أنه يعيش في أرض من الشياطين، ولا قديس فيها سوى الذي تلتقيه محدثا عن نفسه ومتشكيا من جحيم الآخر.

ولو فتح لك أخطر المجرمين قلبه، وحدثك عن “فضائله” وظلم من هم حوله، لأدمعت عيناك رأفة وتعاطفا، وكذلك الأمر حين تزدري أفعال من يظن نفسه طيبا وخلوقا فتتمنى في لحظة ما، و ـ لولا خوفك من “العدالة” ـ أن تخنقه وتخلص البشرية من شروره.

الإنسان بطبعه، ميال إلى تبرئة نفسه، وإلقاء اللوم على الآخرين، لكن قلة هي الفئة التي تلتمس الأعذار للآخرين.. ولولا هؤلاء لما وجدت الدراما البشرية التي تهتم لصراع القيم فتشكك في نوايا الصائبين قبل المخطئين، وقديما قال شكسبير على لسان إحدى شخصياته في مسرحية العاصفة: يا إلهي.. لكأن أبواب الجحيم موصودة هذا المساء، وإلا فلماذا هنا يتجمع كل أبالسة الأرض؟

أما عن الخطأ، فقد كتب في مذكراته: خلقت كي أصوّب الصواب، أدافع عن مرتكبيه جميعا، ومنذ بدء الخليفة، وأمنح للحياة توازنها.. أليست كل الحقائق تبدأ من أخطاء مقصودة أو غير مقصودة؟

تنصّل مني أصحابي وأنكرتني كل البديهيات، لكنهم انطلقوا مني وعادوا إلي بالتذكّر والندم والاتعاظ.

أنا من يصيب الحقيقة في مقتل، أنا المحاولة البكر، والخطوة الأولى نحو اليقين.. والصوت الناشز قبل الذي يسبق الاهتداء إلى أسرار الطرب الأصيل.

أحبوا الأخطاء التي تصنعكم، وتلك التي تصوّبكم.. وأخرى تلهيكم وتنهيكم وتبقيكم على قيد الانتظار والتمني، وحتى الندم، وإن كان الندم هو الخطأ الثاني كما يعلم جميع المخطئين.

من لم يخطئ منكم يا معشر بني الإنسان الذي بني على النسيان؟.. ألم يقل أفلاطون إن المعرفة تذكر والجهل نسيان؟

نسيت شخصيا، الأيام التي أصبت فيها، وما زلت أتذكر تلك الأيام التي أخطأت فيها، وها هي اليوم، تقودني إلى تمجيد الخطأ كإنجاز إنساني عظيم.

كأن بحال ذات الإنسان تقول: أخطأت في تعريفي وشكري وتفضيلي، وحتى في المواقع التي اتهمت فيها نفسي بالخطأ، لكني أفلحت في المواقع التي قادني فيها الخطأ إلى صواب، والصواب إلى خطأ.

أجمل أنواع فنون النحت والأدب والحياكة والمعمار هي تلك التي يطرّزها خطأ تشريحي أو لغوي أو تطبيقي أو هندسي.

18