دعوات لمقاطعة الانتخابات في تونس: الغاضبون يعاقبون أنفسهم أم السياسيين

مراقبون: مقاطعة الانتخابات لا يمكن أن تكون حلا لأزمات تونس السياسية والاقتصادية والاجتماعية بل لن تكون سوى مشكلة إضافية ستزيد من تعقيد الوضع.
السبت 2019/09/14
التصويت هو الحل

يفصل التونسيين على يوم الاقتراع لاختيار رئيسهم القادم، أو بداية هذا الاختيار، يومٌ واحد فقط، ورغم ذلك يغرق الكثيرون في حيرة من أمرهم بشأن مَن مِن المرشحين الستة والعشرين سيمنحون له أصواتهم، ما يجعلهم عاجزين عن حسم اختياراتهم، وهذا المعطى جعل نسبة كبيرة من الحائرين ينضمّون إلى شق المقاطعين لهذه الانتخابات.

تونس – لا يمكن إنكار أن المقاطعة ليست خيارا مستحدثا فلقد نادى عدد من التونسيين بذلك في الانتخابات السابقة بما فيها أول انتخابات تنظمها البلاد بعد سقوط النظام السابق في العام 2011، وحجة هؤلاء في ذلك الوقت غذتها حالة من عدم الثقة في الطبقة السياسية؛ أولا، بحسب البعض لعدم قدرتها على الالتزام بوعودها الانتخابية أو ضعف أدائها السياسي، وثانيا، بسبب المخاوف من تزوير النتائج وهي الفرضية التي تستمد حججها من عهد طويل للتونسيين مع ممارسات مماثلة أيام حكم الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي.

لكن الاختلاف في الرؤى وحجج المقاطعة يبدو مختلفا في رئاسيات 2019، فاليوم يعتبر المقاطعون أن قرارهم هو أسلم الخيارات وأكثرها عقلانية في ظل مستوى ثقافي وسياسي ضعيف لمرشحين، وأن آخرين تحوم حولهم شبهات فساد، وجزءا آخر يرتهن لجهات أجنبية، أو عدم القدرة على تسيير الحكم، أو الافتقاد للكاريزما التي يتطلبها منصب رئيس الجمهورية، أو غياب الخبرة السياسية، أو التمسك بمواقف وأفكار تجاوزها الزمن ولم تعد تجد آذانا صاغية لها بين التونسيين أو حتى أذهانا تخترقها، عدا قلة قليلة ممن يعيشون على هامش التاريخ والعصر والتطور. فمن سيختار التونسيُّ ليكون رئيسه في الفترة القادمة إذا كان من يتنافسون “كلهم سيئون”، بحسب ما يتردد على منصات التواصل الافتراضية وفي الشارع.

قالت ريم، وهي طالبة في الجامعية تبلغ من العمر 23 عاما، إن قائمة المرشحين تضم “الفاسد والرجعي، وفاقد القدرة على التواصل مع الناس، وحامل مشروع الدكتاتورية”.

وتابعت متسائلة، في تصريح لـ”العرب”، “من يمكنني أن أختاره من بين هؤلاء؟ أعتقد الأفضل أن أربح راحة بالي ولا أذهب للتصويت”.

وإلى جانب الأسباب السابقة للعزوف عن التصويت في الانتخابات الرئاسية تبرز في نقاشات التونسيين الافتراضية والواقعية حجج أخرى تتعلق هذه المرة بالنزعة العقابية تجاه الطبقة السياسية برمتها سواء التي في الحكم أو تلك التي اصطفت ضمن المعارضة لسنوات طويلة.

يعتبر المقاطعون للانتخابات أن الطبقة السياسية فشلت في إيجاد حلول للأوضاع السيئة التي تعيشها تونس وازدادت حدة في السنوات الأخيرة وهي تبدأ بالملف الاجتماعي وتمرّ بالمشهد السياسي ولا تنتهي بالاقتصاد، كما يرون أن السلطة الحاكمة فشلت في إدارة شؤون البلاد ما زاد في حالة اليأس والشعور بالإحباط لدى التونسيين.

ولا يستثني المنادون بالعزوف عن التصويت المعارضين من انتقاداتهم الموجهة للطبقة السياسية فهم يحمّلونهم جزءا من مسؤولية أزمات البلاد بسبب عدم قدرتهم على إحباط أكثر البرامج الحكومية المثيرة للجدل والتي أججت غضبا شعبيا في فترات معينة إلى جانب عجز هذه المعارضة عن تقديم بدائل سياسية ومشاريع حقيقة تفيد البلاد ويعتبرون أن حدود السياسيين المعارضين داخل البرلمان وخارجه تقف عند الخطاب السياسي الأجوف وغير القادر على تشكيل خزان انتخابي ينافس القاعدة الشعبية للإسلام السياسي والقوى القريبة منه في المناطق الفقيرة والشعبية.

كما يعتبر أنصار تيار المقاطعة أن المعارضة التونسية لم تنجح في الاستفادة من تراجع التأييد الشعبي لحركة نداء تونس،التي تمكنت في 2014 من إزاحة حركة النهضة من صدارة النتائج الانتخابية، بسبب تصدعها ما أسفر عن تشتتها وبروز أحزاب جديدة كنتيجة لذلك.

نجاح الانتخابات في تونس رهين الالتزام المجتمعي
عقلية المقاطعة لا تجد في مواجهتها عقلية قوية تقاومها

وقال أحمد، وهو موظف في شركة خاصة يبلغ من العمر 29 عاما، “جميعهم (السياسيون) فاشلون”.

وأكد، لـ”العرب”، عدم ثقته في الطبقة السياسية قائلا “لا أثق فيهم ولا أثق في أن أيا منهم سواء من كان في الحكم أو من يسعى لأن يكون داخل منظومة الحكم قادر على التغيير أو وضع البلاد على الطريق الصحيح”.

لكن هذا الخيار العقابي يبدو في قسوته ذا ارتدادات وخيمة، فالمواطن برغبته في معاقبة السياسيين بالعزوف عن التصويت سيجد نفسه في نهاية المطاف قد سلك طريقا لمعاقبة نفسه أولا فلا يمكن أن تفرز هذه الخيارات العقابية إلا أسوأ السيناريوهات لتونس.

الأسوأ في الأمر أن عقلية المقاطعة لا تجد في مواجهتها عقلية قوية تقاومها وتفشلها بتقديم البدائل الواقعية والقادرة على تغيير زوايا النظر بالنسبة للبعض، وهذا الأمر ساعد في جزء منه على استكانة البعض إلى سلبية المقاطعة.

ولا يمكن بأي شكل من الأشكال أن تكون مقاطعة الانتخابات حلا لأزمات تونس السياسية والاقتصادية والاجتماعية بل لن تكون سوى مشكلة إضافية ستزيد من تعقيد الوضع السياسي في مرحلة أولى لتترتب عنه تداعيات مؤلمة اقتصاديا واجتماعيا.

لقد أثبتت التجربة التونسية في فترات سابقة أن المقاطعة لن تخدم إلا قوى الشدّ إلى الوراء التي تمتلك كتلة انتخابية صلبة فتستفيد من تشتت الأصوات حينا ومن ارتفاع نسبة المقاطعة أحيانا أخرى لتزيد فرصها في تحقيق فوز انتخابي، فتجد تونس نفسها أمام تكرار منظومة حكم كانت منذ 2011 سببا في ما عاشته من فوضى أمنية ساعدت الجماعات المتطرفة على النشاط واتباع استراتيجيات اقتصادية واجتماعية فاشلة أفرزها عجز عن تسيير شؤون البلاد بعيدا عن سياسات المحاور والرؤى الضيقة تجاه أهم الملفات المطروحة محليا وإقليميا.

تؤكد الأوساط السياسية أن خيار المقاطعة لن يفرز إلا أسوأ السيناريوهات لتونس في الانتخابات الحالية، فقد يكون العزوف عن التصويت يوم الاقتراع أكبر هدية يقدمها التونسيون لمرشح مثير للجدل تحوم حول شخصه شبهات التهرب الضريبي والفساد المالي وتبييض الأموال ولم يبتّ القضاء بعدُ في هذه التهم، إذ لا تزال التحقيقات القضائية تجري معه في هذا الخصوص.

وبعيدا عن السيناريوهات السيئة التي قد تكون ثمارا مسمومة لمن اختاروا الاستجابة لنداء المقاطعة، يبدو الوضع أكثر عبثية وتترسخ الفكرة بأيضا أن العزوف عن التصويت ليس سوى موقف سلبي بالنظر إلى أفق المقاطعة وطريقة عمل الآلة السياسية في تونس.

وترى أوساط مختلفة أن السياسيين التونسيين ليسوا بالإدراك الكافي لفهم الرسائل التي يريد المقاطعون إبلاغها باتخاذ هذا القرار أو محاولة احتواء هؤلاء من خلال الإصغاء لأفكارهم والاستجابة لطلباتهم. ويكفي النظر إلى السنوات السابقة لتكون الصورة واضحة نسبيا، فكم من حزب أو شخصية سياسية قام جديا بمراجعات عميقة لمنهجه وبرامجه أو حتى بتقييم لنتائجه الانتخابية بكل موضوعية؟ وكم من فائز في الانتخابات وضع في اعتباره المقاطعين ومواقفهم في خطاباته وتوجهاته بعد الانتخابات؟ ببساطة التطلع للصورة مع التجرد من حالة الإنكار يبدو جليا، بطريقة لا تشوبها شائبة إن العزوف عن التصويت لن يكون سوى ضربة مرتدة ستزيد من تعميق جراح تونس المأزومة بسبب مواقف مماثلة تصب في خانة السلبية.

وبحماسة تكلمت هاجر، وهي أم لطفلين تبلغ من العمر 29 عاما وعاطلة عن العمل، لتؤكد تمسكها بحقها في التصويت حيث قالت “صوتي هو سلاحي الوحيد، سأمارس حقي في الانتخاب ولن أتنازل عنه”. وقالت، لـ”العرب”، “لو ثبت أن من صوتُّ له لم يكن في مستوى تطلعاتي ولم يفِ بوعوده لن أمنحه صوتي في المرة القادمة. تونس تستحق شخصا نزيها وليس من يلهث وراء مصالحه الخاصة”.

وعلى الشبكات الاجتماعية الافتراضية، حاول البعض التصدي لحملات مقاطعة الانتخابات بالتأكيد على أهمية المشاركة في الاقتراع مرددين شعارات من قبيل “مقاطعة الانتخابات موش حل (مقاطعة الانتخابات ليست حلا)” و”ماتسلمش في حقك في المواطنة (لا تتنازل عن حقك في المواطنة)” وهي من الشعارات التي تم ترديدها منذ أشهر عند انطلاق تسجيل الناخبين استعدادا لتنظيم الانتخابات الرئاسية والتشريعية ردا على دعوات المقاطعة التي ظهرت لدى البعض من المواطنين حينها.

دعوات العزوف عن التصويت ترفع منسوب القلق من أسوأ السيناريوهات
دعوات العزوف عن التصويت ترفع منسوب القلق من أسوأ السيناريوهات

للمزيد: 

6