درون بالتقسيط

تلقف رواد التواصل الاجتماعي الباحثين عن فسحة للتنفيس عن هموم يومياتهم الثقيلة، حادثة الطائرة المسيرة التي سقطت أو أسقطت على الحدود الجزائرية – المالية، للفها بتعليق خفيف في الظاهر، لكنه ثقيل جدا في الباطن، فاختلق هؤلاء رواية مفادها أن الدرون اشتركت فيها الدول الثلاث واشترتها بالتقسيط.
السيناريو يترجم مدى حرص الكثير من الحكومات على التسلح والتسليح على حساب الحاجيات الضرورية لشعوبها؛ فبدل التفرغ لتوفير الخدمات الضرورية من تعليم وصحة ومرافق أساسية، للنهوض بواقع الإنسان لديها، يتم منح الأولوية في برامجها للسلاح والتسلح حتى لو كان بالتقسيط.
وبعيدا عن خلفيات ودلالات الطائرة المسيرة التي حركت الرمال في منطقة الساحل بعدما ساد الانطباع بأنها تسير نحو الهدوء، فإن المنطقة برمتها في حاجة إلى ترتيب جاد للأولويات التي تضع الإنسان الأفريقي في طليعة انشغالات الحكومات والأنظمة السياسية القائمة.
وإذ تخوض المجالس العسكرية الحاكمة في الساحل معركة تحصيل الشرعية السياسية، فإن جهودها ستبقى خالية الوفاض إذا ركزت خطابها على الأبعاد الجيوسياسية وتقاطع المصالح الإقليمية والدولية، لأنها من الأصل لا تملك آليات تجسيد خطاباتها وشعاراتها، والأجدر بها التوجه إلى الجهود الاجتماعية والاقتصادية الحقيقية، إذا أرادت القطع مع حقب الأنظمة السابقة، لأن أول اختبار سترسب فيه سيكون على يد تلك الوجوه البريئة التي تاهت في البراري من أجل لقمة العيش، فوصلت من أجلها إلى سواحل المتوسط.
حمى السلاح والتسليح التي تسود المنطقة برمتها من الساحل الصحراوي إلى غاية ساحل المتوسط، هي نتيجة آلية لقصور فهم تحولات العالم، فيمكن للدولة أن تملك أي سلاح متطور، لكن ما جدوى ذلك إذا كان الفرد الذي يُزعم أن التسليح يتم من أجله فارا من أرضه ووطنه إلى أراض وأوطان أخرى.
لمن الأولوية في المنطقة، للمسدس الرشاش أم للقمة العيش، لاستقرار الناس في أوطانهم وأراضيهم، أم لأنواع الهجرات العلنية والسرية، هل لتحويل المنطقة إلى سوق رائجة للسلاح، أم لخطة تكامل اقتصادي واجتماعي تشيع الاستقرار وتشيد أبعاد القوة الحقيقية التي تهابها الأطماع الإقليمية والدولية.
قبل التفكير في خلط الحسابات الجيوسياسية، وشحن الحروب الإلكترونية والمعنوية، كان الأجدر التفكير في هؤلاء الذين ربطتهم أواصر الدم والعشيرة على الحدود، وفرقتهم الجغرافيات الرسمية، فمهما كانت الخلافات بين الجزائر وباماكو مثلا، لا يمكن لسكان تين زواتين الجزائرية أو المالية أن يفهموها لأن الجذور الاجتماعية أقوى من مجرد طائرة درون.
يمكن للقوى الإقليمية أن تتغلغل في المنطقة من أجل نفوذها ومصالحها، فيأتي الروس والأتراك والصينيون والأميركان، وغيرهم، لكن تلك الوجوه التائهة من أجل لقمة العيش لا يمكن أو لا يسمح لها بأن تصول وتجول وتصبح شيئا فشيئا جزءا من المجتمع في موسكو أو أنقرة أو بكين أو واشنطن، لأن الغاية ليست هذه الوجوه في حد ذاتها، وإنما خيراتها وثرواتها.
ومهما كانت الحسابات أو الخلافات فإن القوى الكبرى تدير حروبها على أراضي الآخرين، وتنسحب منها وتتركها لمصيرها، كما يُترك الأفارقة لمصيرهم في الصحاري القاحلة، فهذا يطردهم والآخر يستقبلهم، بينما خيراتهم تنهب وثرواتهم تستباح، وما سقط من فتات يوجه للسلاح والتسليح حتى ولو كان بالتقسيط.
منطق العقل يغلب فرضية التعايش في المنطقة، إذا كان التكامل مستحيلا، فالساحل عمق الجزائر، والجزائر بوابة الساحل، وما عدا ذلك هو فرط فخاخ مبيتة لأهداف مغرضة، والأولوية الآن للقمة العيش بدل الرشاش، فمبلغ 30 مليون دولار لشراء طائرة مسيرة، بإمكانه أن يسد حاجيات الكثير من الوجوه التائهة بحثا عن لقمة العيش.