دروس يجب استيعابها.. في الجزائر

يكفي مسح بسيط لوجوه المتضررين لاستنباط العشرات من الأسئلة والاستفهامات، حول ما لحق هؤلاء من أضرار أتت على الأخضر واليابس في لمح البصر، وفي ثناياها تختفي عبارات عتب وسؤال رئيسي، هل قدرنا أن ندفع في كل مرة فاتورة ضخمة في العتاد والأرواح، ومتى نستوعب الدرس، وما الفائدة من دولة غنية ليس بإمكانها تقليص خسائر الكوارث الطبيعية.
الكوارث الطبيعية من فيضانات وزلازل وحرائق تتجه لأن تكون مرافقا للإنسان في العصر الحديث، والمشكلة ليست فيها بحسب ما أثبتته التجارب، وإنما في عجز الإنسان عن التكيف السريع معها، فيطوعها كما طوع من قبلها الكثير من الظواهر الطبيعية ووصل إلى هذا المستوى من التطور والعصرنة. كان يكفي لحرائق الجزائر أن تمر مرور الكرام، لو لاحظ الجزائريون فارقا لافتا بين التي سجلت هذا الأسبوع، وبين تلك التي سجلت في صيف عام 2021، لكن أن تحصي البلاد كل هذا الكم من الخسائر المادية والبشرية، يزيد من علامات الاستفهام والحيرة، لأن الثابت أنه لا شيء تغير رغم الوعود والتعهدات التي رددها الخطاب الرسمي.
بدل الاستعراض السياسي والشعبي الذي أثير حول عرض لاقتناء طائرات حديثة ومجهزة لم ينفذ إلى حد الآن، كان يجب التصرف بواقعية وبراغماتية والبحث عن بدائل ومصادر أخرى
بلغة الأرقام والبيانات الفارق شاسع بين حصيلتي العام 2021 والعام الحالي، لكن من يدري فصل الصيف لا يزال في بداياته ودرجات الحرارة مرتفعة، وإمكانيات حدوث حرائق أخرى تبقى قائمة، الأمر الذي يجعل لحظة الحيرة والاستفهام مزمنة، لأنه على ما يبدو السلطات المختصة لم تستوعب الدرس ولا تملك القدرة على الاستشراف.
صحيح التغير المناخي اقتحم الجزائر ودول المنطقة بقوة، لكن أين القدرة الإبداعية للمدير والمسير للشأن العام، ففي ظرف وجيز باتت المعالم الجديدة ماثلة للعيان، تنتظر من يتكيف معها ومن له القدرة على تطويعها، أما من تخلف فأكيد سينتهي به المطاف إلى ما انتهى إليه الحاكم المستبد الذي هجره شعبه ولم يجد من يحكم، فيكون حاكما لبلد تستحيل فيها الحياة.
هناك العديد من الدروس والعبر التي يجب استيعابها من طرف الحكومة قبل فوات الأوان، أولها أن التغير المناخي بات حقيقة قائمة يجب الاستعداد لها كما يجري الاستعداد لأي خطر آخر، وأن الأمن الغذائي والمائي سيصبح العنوان الآخر لمفهوم الاستقلال التقليدي، فبلد يعجز عن توفير الماء والغذاء هو في خطر حقيقي ولن يكون بلدا مستقلا مهما كان منسوب الشعبوية واللغة الخشبية.
وكما معايير البناء وصرف المياه، فإن للغابة في المعطيات الجديدة، تحديات حقيقية شأنها شأن التحديات الأخرى، فالغابة التي تتطلب عقودا من الزمن لتصبح كذلك، لا يجب تركها عرضة للتلف في لمح البصر، فالقاعدة تذكر بأن البناء صعب ومكلف وطويل، لكن التدمير سهل وسريع، ففي أيام قليلة فقدت البلاد آلاف الهكتارات من الغطاء النباتي المساعد للاقتصاد وللتوازن البيئي وللحياة بشكل عام.
أحيانا لا يحزن المتضررون للأضرار المادية، بقدر ما يحزنون لفقد نباتات وأشجار لا ينظرون إليها بعين العائد، بقدر ما ينظرون إليها على أنها جزء من الذاكرة ومن الإرث العائلي ومن تركة الأجداد، وفي المحصلة بالنسبة إليهم هي معلم معنوي وكائن حي عاشوا معه وسيتركونه لأولادهم كما تركه لهم أباؤهم وأجدادهم.
الإفادات الشعبية تجمع على أنها حرائق غير مسبوقة ونارها غير عادية، والمسنون الذين عاشوا ثمانية عقود وأكثر لا يذكرون لهيبا كاللهيب الذي حوّل آلاف الهكتارات في وقت قياسي إلى أرض جدباء وكومة من الحطام ورائحة الرماد، وذلك درس آخر للقائمين على الشأن العام، بأن الوضع لم يعد كما كان في الماضي، ولا بد من حشد المزيد من الإمكانيات البشرية واللوجستية والتخطيط والاستشراف.
لم يعد جهاز الدفاع المدني الكلاسيكي قادرا على مواجهة الكوارث المستفحلة، لا من حيث التعداد ولا التكوين ولا الإمكانيات، وحتى مخطط الانتشار النمطي لم يعد صالحا لاستباق مثل هكذا كوارث
لم يعد جهاز الدفاع المدني الكلاسيكي قادرا على مواجهة الكوارث المستفحلة، لا من حيث التعداد ولا التكوين ولا الإمكانيات، وحتى مخطط الانتشار النمطي لم يعد صالحا لاستباق مثل هكذا كوارث أو الحد من الخسائر، فمن غير المعقول أن تستقر الوحدات العاملة كلها في المدن والحواشي وتبقى بعيدة عن الغابات والغطاءات النباتية النائية.
وكان قول أحد المتطوعين البسطاء في عملية الإطفاء والإجلاء، بضرورة مراجعة مخطط انتشار وحدات جهاز الدفاع المدني، وتمركز البعض منها في مناطق الغابات والمناطق الجبلية، مع تكثيف التكوين والإمكانيات الموجهة للحرائق، أقرب كثيرا للمقاربة التي يتوجب بلورتها من أجل التكيف مع الإكراهات التي يثبتها تدريجيا التغير المناخي على البلاد.
وهذا لا يغفل الجوانب اللوجستية التي باتت محل حيرة ودهشة في آن واحد، لأنه من غير المعقول أن بلدا يلعب رهانات إقليمية ودولية، لا يستطيع توفير طائرات إطفاء وتجهيزات أخرى متطورة، رغم التجربة القاسية التي عاشها في صيف عام 2021، فالوعود والتعهدات التي أطلقت حينها لم تثمر عن شيء، وتدار الأزمات بتأجير وحدات أثبتت عدم كفايتها وجدارتها في إطفاء ألسنة اللهب المستعرة في محافظات عدة.
وبدل الاستعراض السياسي والشعبي الذي أثير حول عرض لاقتناء طائرات حديثة ومجهزة لم ينفذ إلى حد الآن، كان يجب التصرف بواقعية وبراغماتية والبحث عن بدائل ومصادر أخرى، فالشراكة السياسية يجب أن لا تكون على حساب الحفاظ على غابات وأرزاق الناس، وتكبيد خزانة الدولة المزيد من النفقات لتعويض المتضررين.
حتى حملات التعبئة الموسمية لا تزال تجري في طابع نمطي قديم، تقدم النصائح والإرشادات، لكنها تتجاهل سكان الجبال والمناطق المتاخمة للغابات، فهؤلاء يجب أن لا يكونوا حراسا في فصل الصيف فقط، بل شركاء في كل الفصول بما تدره هذه المناطق من عائدات وفوائد.