درس من إرث القبانجي

كان الموسيقار الأول في العراق ولا تكتمل الاحتفالات في القصر الملكي مع ضيوفه آنذاك إلا بوجود محمد القبانجي.
القبانجي الذي يُعدّ الأب المعاصر للموسيقى العراقية، لم يكن مغنيا فحسب، بل كان مبتكرا موسيقيا. وتسجل مقامات “اللامي” و”المخالف” باسمه، واختار هذا الاسم ليخالف به المفهوم الرياضي لبناء المقام العراقي.
ومن يستمع لمقام المخالف اليوم يدرك بوله ما معنى أي يكون الوجع والتساؤل عراقيا في الغناء.
هذا الموسيقار الذي رحل عن عالمنا عام 1989 بعد حياة كريمة عاشها، لأنه لم يجعل من الغناء مصدرا لعيشه، يعد مثالا لمعنى أن يقرأ الفنان مستقبله بحصافة لا تجعله يعول على الفن كمصدر عيش. ذلك ما يجعلنا جميعا نستذكر فنانين لم يجدوا في نهاية حياتهم غير الخيبة والجحود والنسيان. دعك من ظروفهم المالية.
لقد ترك القبانجي حكمة عميقة للفنان سعدون جابر، كانت بالنسبة إليه مثالا ليبني حياته الشخصية عليها.
يستذكر جابر كيف كان الدرس الأول الذي تعلمه من “أبوالقاسم” القبانجي عندما بدأ حياته الفنية بالإنشاد في كورس هذا الفنان أثناء حفلاته.

يروي القبانجي، والقصة على لسان سعدون جابر أثارها أمامي قبل سنوات وهو يربط معنى ألا يعيش المغني من الفن، أن القبانجي كان يُحتفى به من تشريفات القصر الملكي في ثلاثينات القرن الماضي عندما تقام الحفلات ويتم الاتصال به ونقله مع الفرقة الموسيقية في التوقيت المناسب إلى مكان الحفل. لكن من يسأل عنهم بعد انتهاء الحفل ومن يعطي الموسيقيين أجورهم؟ “يتساءل أبوالقاسم وهو يروي الحكاية لسعدون جابر”.
تعلم القبانجي منذ ذلك الوقت الدرس الأعمق بأن حياته وأسرته يجب أن تكون بمعزل عن فنه. لذلك عاش كريما من أعماله خارج الغناء، بينما بقي موسيقار العراق الأول في الغناء.
كان أبلغ درس إنساني تعلمه سعدون جابر، واستفاد منه بأقصى ما يمكن أن يفصل حياته ومعيشته عن فنه، وهذا سبب استمرار نجاحه بعد كل هذا العمر “سيعود إلى جمهوره الخليجي في حفل على هامش معرض الرياض الدولي للكتاب مع الموسيقار نصير شمه في السادس من أكتوبر”، بينما تتلبس الحسرة أكثر من جيل من المطربين العراقيين وهم يعيشون الجحود ومرارة العيش بعد عقود من الغناء.
يروي الشاعر حميد سعيد، أنه تبلغ عندما كان مديرا للإذاعة والتلفزيون العراقي، بأن القبانجي سيزور المؤسسة في يوم ما. فأصر على استقباله أمام المبنى في احتفاء يليق به، وسط تساؤلات العاملين معه!
رد الشاعر العراقي على اعتراض أحدهم بالقول "أنني مجرد موظف في هذه المؤسسة وسأغادرها في يوم ما، بينما القبانجي يمثل إرثا موسيقيا لا يمكن لمدونة التاريخ إلا أن تضعه في أعلى متنها".