دراما اجتماعية تكسر نمطية كوميديا الابتذال السائدة

أخلفت دراما رمضان ظنون وتوقعات النقاد في بعض الأعمال بعد مشاهدتها، حيث خيّبت مسلسلات بعينها تصوّرات بأنها رائعة ومبهرة وتعكس آمال المشاهدين، رغم اعتمادها على أسماء لامعة تحظى بجماهيرية واسعة، وبدّدت أعمال أخرى توقّعها البعض بأنها خفيفة وسطحية لافتقارها للنجوم الكبار، لتنجح في لفت الأنظار وجذب الاهتمام وكسب المشاهدات.
القاهرة - مثّل المسلسل المصري “خلي بالك من زيزي” نموذجا جيدا للدراما الاجتماعية الكوميدية بعيدا عن الابتذال أو الافتعال، مقدّما واقعا مشابها لما يحدث داخل أسر كثيرة، من صراعات ومشكلات وخلافات وتفاعلات، اعتمادا على نص اجتماعي متماسك ومشاركة مجموعة من الفنانين الجيدين.
ومع أن العمل لم يحظ بدعاية كافية، وبدا من عنوانه خفيفا، كأنه يُعيد توظيف عنوان الفيلم الشهير للفنانة الراحلة سعاد حسني، والفنان حسين فهمي “خلي بالك من زوزو” والمنتج سنة 1972، إلاّ أنه حظي بانتباه وإعجاب شديدين من شريحة مهمة من الجمهور، وهو ما ظهر في فيديوهات إيجابية عديدة بثّها البعض للمسلسل على صفحات التواصل الاجتماعي المختلفة.
والمسلسل من إنتاج شركة “آي بروديوذر” وبطولة أمينة خليل، ومحمد ممدوح، وعلي قاسم، ونهى عابدين وبيومي فؤاد، ومن إخراج كريم الشناوي، وتأليف فريق عمل ثلاثي يضم مريم نعوم مشرفة على الكتابة، ومنى الشيمي صاحبة الفكرة والسيناريو، ومجدي أمين كاتب السيناريو والحوار، وتصميم ملابس ناهد نصرالله، وموسيقى خالد الكمار.
كوميديا الصراع

المسلسل ينجح في تقديم الكوميديا المعتمدة على تناقضات المواقف، والحرب الناعمة بين الزوجين دون ابتذال
يقدّم المسلسل قصة زيزي، وهي امرأة جميلة، مُدلّلة، لكنها شديدة العصبية، حظيت بحياة شبه مترفة، ولم تتحمّل مسؤولية قط في حياتها، تقوم بدورها الفنانة أمينة خليل، وتنشأ بينها وبين زوجها الأستاذ الجامعي هشام (علي قاسم) خلافات واسعة بعد فشلها في الإنجاب، ما يدفعها للاستعانة بمحام ناجح وكفء، شديد الذكاء، هو مراد (محمد ممدوح)، لتبدأ واقعا جديدا بعد أن تعتدي على زوجها وتحطم سيارته.
في إطار عصبيتها الزائدة، تصطدم زيزي بوقائع غريبة تحمل من الكوميديا قدرا وافرا، تعتمد على تناقضات المواقف، والحرب الناعمة بين الزوجين، وليس على الحوار المفتعل ذي الإشارات أو التلميحات المبتذلة، مثلما هو الحال في معظم نماذج الكوميديا الشائعة حاليا في مصر.
وتبدو زيزي نموذجا متكرّرا لنساء كُثر دللتهنّ عائلاتهنّ، فلم تعمل أو تتحمّل مسؤولية، رغم تميزها بطاقات مفرطة، وهو ما يجعل تصحيح حياتها بعد سقوط عائلها أو الخلاف معه بمثابة رحلة كفاح حقيقية تحمل الكثير من المفاجآت.
ومن هنا تستعين زيزي في إطار تعافيها من التدليل الزائد بصداقة المحامي المعجب بها، واستشارات طبيب نفسي يحاول ضبط انفعالاتها، وبجهد رياضي يسعى إلى امتصاص طاقاتها الزائدة، فضلا عن التمرين على التمثيل بالتعاون مع مدرب تمثيل لتقديم نموذج مُتقن للمرأة الضحية، المنكسرة، والمضطهدة في نزاعها المستمر مع زوجها.
ويتناغم اختيار خليل لتقديم هذه الشخصية تحديدا مع سماتها الشخصية الأقرب للفتاة المدلّلة، شديدة الانفعال، ذات التعبيرات الحادة، وربما كان نجاحها في تقديم مسلسل “ليه لا” العام الماضي، والذي أشرفت على ورشة كتابته مريم نعوم أيضا، وأخرجته مريم أبوعوف، منحها ثقة كبيرة في إمكانية القيام ببطولة أعمال درامية ذات أبعاد اجتماعية.
ورغم أن انفعالاتها بدت في بعض المشاهد زائدة عن الطبيعة، إلاّ أن الأداء بشكل عام يؤكّد أنها تزداد نضجا، وتترسّخ أقدامها في أكثر من لون درامي، ما ينمّ عن موهبة أصيلة تستطيع الانتقال من حالة فنية إلى أخرى بسهولة.
أما محمد ممدوح، فهو ممثل موهوب، متميّز الأداء، قويّ التعبير، وقادر على تقديم ثيمة متوازنة بين الجدية والكوميديا، وهو مناسب لدور محام بارع، عاطفي بتعقّل، خفيف الدم دون ابتذال، وقادر على توظيف إمكاناته الجيدة في التعبير عن بطل عاطفي، غير وسيم. لكنه يحظى بشخصية قادرة على جذب الآخرين، وهو نموذج لممثل بارع في أداء أدوار الكوميديا بالقدر نفسه الذي يبرع فيه في تقديم أدوار التراجيديا، وليس أدلّ على ذلك من قدرته على رسم البسمة على الوجوه في مسلسل مليء بالمواقف الاجتماعية المعقدة.
وإذا كان أداء الفنان الشاب علي قاسم في دور زوج زيزي ما زال غير لافت، إلاّ أنه يشير إلى مستقبل واعد، ففي حدود الدور الذي يلعبه كان جيدا، وهو مازال في بداية مشواره الفني، إذ عرفه الجمهور العريض قبل عامين بدور “ضاحي” في مسلسل “طايع”، ثم في مسلسل “لعبة النسيان” في العام الماضي مع دينا الشربيني.
ويقدّم المسلسل بالتوازي مع الحكاية الرئيسية لزيزي، واقعا لطفلة مشابهة هي “تيتو” أو “عطيات” كما هو مدوّن في السجلات الرسمية، والتي تعاني من مرض فرط الحركة وقلة الاستيعاب الدراسي، ويحاول والداها معالجتها وهي صغيرة، كي لا تتحوّل إلى نموذج مشابه لزيزي عندما تكبر.
وتؤدي هذا الدور الطفلة ريم عبدالقادر، والتي كشفت عن موهبة مدهشة، وسبق أن لفتت الأنظار إليها في مسلسل “ما وراء الطبيعة” قبل بضعة أشهر من إنتاج نتفليكس، عندما قدّمت دور الطفلة الشبح شيراز، وتمتلك ريم تعبيرات مؤثرة، وتلقائية جذابة، وإتقان كبير، يُنبىء عن وعي بطبيعة الدور والقدرة على تقمّصه تماما.
مخرج متميز
تدلّل التجربة الجديدة للمخرج كريم الشناوي، إضافة إلى نجاحات سابقة له، أننا أمام مُخرج له طبيعة خاصة، شديد الاهتمام بالتفاصيل، وقادر على توظيف مواهب الممثلين، فضلا عن تصميم الديكور والملابس والموسيقى التصويرية في جماعية منسقة، راسما كوميديا واقعية لذيذة، تُعيد تذكيرنا بالأعمال الاجتماعية العظيمة، مثل مسلسل “أم العروسة”، وفيلم “مراتي مدير عام”.
ويبدو تألق الشناوي منطقيا بعد تدرّجه الطبيعي في التطوّر الفني عبر محطات عديدة شارك فيها كمخرج مساعد، ومخرج منفذ، ثم مخرج، بدءا من فيلم “أسماء” سنة 2011، ومرورا بـأفلام “نوارة” 2015، و”اشتباك” 2016، و”طلق صناعي” 2018، ثم مسلسل “قابيل” 2019.
ويحاول الشناوي أن يُكرّر أسلوبه المعتاد، والمعتمد على اهتمام كبير بالصورة وتفاصيلها، والذي بدا بارزا في فيلمه “طلق ناري”.
ومع أن النظرة العامة للكتابة المشتركة، بشكل عام غير جيدة، وفقا لتجارب سابقة، فالتناغم بدا واضحا بين المشاركين في ورشة الكتابة معا، بإشراف مريم نعوم التي تضع الأطر والقواعد اللازمة لنجاح العمل وإعداده جيدا.
ونجح طاقم العمل في اختياره فرقة “شارموفرز” لتقديم أغنية التتر التي بدت جديدة في موسيقاها، وبسيطة في كلماتها وتُحذّر من التمادي في الكذب، وتعقيدات الحياة.
وحسنا فعلت الشركة المنتجة، إذ راهنت على كسر نمطية الكوميديا السائدة بالتركيز على فكرة العمل الجماعي المنسجم، والإفلات من ثيمة النجم الأوحد الكبير، والتي تعتمد عليها الكثير من الشركات المنتجة، استسهالا واستثمارا لجماهيرية النجوم الكبار، بدلا من خلق جمهور جديد لموهبة صاعدة.
وقد يكون هذا الاتجاه العملي في التفكير الفني، هو الأنجح لتوليد أجيال جديدة من المبدعين وأصحاب المواهب، وتشجيعهم على التطوّر واللمعان والتحوّل سريعا إلى نجوم كبار.