دبلوماسية البدائل.. هامش مناورة أم قفز للمجهول

الدبلوماسية الجزائرية أعطت في الآونة الأخيرة الانطباع بأنها تراهن على خيار البدائل لتجاوز أزماتها مع عدة دول في المنطقة ظلت إلى وقت قريب تمثل شراكات إستراتيجية على غرار فرنسا وإسبانيا.
الثلاثاء 2023/06/20
الانفتاح وتعدد الشراكات ليس بالضرورة خيارا للبدائل

أجرى مدونون يناصرون الرئيس عبدالمجيد تبون، مقارنة بين التشريفات التي نفذت في الاستقبال الذي حظي به الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، خلال زيارته لروسيا، ونشروا في صفحاتهم الصورة التي أظهرت الطاولة الكبيرة التي اجتمع حولها الرجلان، وبين ما أسموه بـ”المسافة صفر” في الاستقبال الذي حظي به الرئيس الجزائري من طرف نظيره الروسي فلاديمير بوتين.

وتعكس المقارنة الانطباع السائد لدى دوائر واسعة في السلطة ولدى أذرعها الشعبية، حول منهجية البدائل الدبلوماسية التي تعتمدها في ترسيم خياراتها وشراكاتها مع الفاعلين الإقليميين والدوليين، فهؤلاء يسوقون لمكانة تحظى بها بلادهم أكثر من المكانة التي يحظى بها شركاء مترددون ويكيدون لها.

وأعطت الدبلوماسية الجزائرية في الآونة الأخيرة، الانطباع بأنها تراهن على خيار البدائل لتجاوز أزماتها مع عدة دول في المنطقة، ظلت إلى وقت قريب تمثل شراكات إستراتيجية على غرار فرنسا وإسبانيا وبدرجة أقل الولايات المتحدة الأميركية.

◙ بوتين تعمد إحراج نظيره الجزائري تبون، بكشفه أن البلدين أجريا تمرينا عسكريا مشتركا في شهر نوفمبر الماضي، وهو ما كانت الجزائر تخفيه عن الغرب ونفت وزارة الدفاع تنفيذه

وعمدت إلى الخروج من ارتداد تلك الأزمات إلى فتح نوافذ لها في إيطاليا والبرتغال ثم روسيا، في رسالة تحد لحكومات باريس ومدريد ثم واشنطن، مفادها قدرتها على المناورة والتعويض وامتلاكها لمقومات الشراكة والمصالح المتبادلة.

لكن هل تستطيع البرتغال تعويض إسبانيا، وإيطاليا تعويض فرنسا، وأميركا تعويض روسيا، وهل يكون بإمكان الجزائر الاستغناء عن تلك العواصم ما دامت العواصم الأخرى في المتناول بالمنظور الجزائري.

الأكيد أن المصالح والاهتمامات تتشابه لكنها لا تتطابق، فما يجمع الجزائر بفرنسا ليس هو نفسه ما يجمعها مع إيطاليا، والأمر ينسحب على الآخرين، ولذلك فإن الانفتاح وتعدد الشراكات ليس بالضرورة خيارا للبدائل، فالأمر لا يتعلق ببضاعة تستبدل في السوق، وإنما بعلاقات دولية وإقليمية معقدة.

في أكثر من تصريح له لوسائل إعلام محلية، أكد الرئيس تبون أن بلاده “منفتحة على الجميع وصديقة الجميع”، وهو أمر لامه عليه البعض لأن منطق العلاقات الدولية هو المصالح المتفاوتة، ولذلك لا يمكن أن يكون الجميع على نفس الخط، وهو ما تأكد من خلال الأزمات والخلافات القائمة مع أكثر من دولة رغم حتمية المصالح المشتركة معها.

واحد من المختصين شبه العلاقات الدولية بالمصباح، فإذا تم إشعاله لا يستوجب إطفاؤه أبدا، وإنما الحكمة تكمن في رفع وتخفيض درجة الإنارة حسب ما تقتضيه الضرورة، وهو مثال حي على البراغماتية المطلوبة في التعاطي مع المسائل والملفات الخارجية، خاصة إذا كانت لكل طرف طبيعته وخصوصيته ولا يمكن له أن يكون بديلا لطرف آخر.

تمنى البعض أن تكون زيارة تبون إلى روسيا من أجل التخلص من العبء، بدل أن تعطي الانطباع بأنها استقواء بموسكو على آخرين، لأن ذلك يجر البلاد إلى متاهات أخرى، بسبب قوى لا ترتاح إلى التقارب الجزائري – الروسي، وبذلت جهودا حثيثة لفك الارتباط بين البلدين.

فقد كسر العبء الذي ارتبط بزيارتين أثارتا الكثير من الجدل، لأنهما جمعتا بين نقيضين في ذروة أزمة دولية غير مسبوقة، ولذلك شكلتا طيلة شهور كاملة ضغطا كبيرا على القيادة الجزائرية، رغم أن المسألة تتعلق بقرار سيادي ولكل خياراته وتوجهاته.

ذلك هو الظاهر، أما الباطن فهو ولاءات وتبعيات وضغوط ونفوذ، ولذلك فإن الجزائر التي وجدت نفسها بين المطرقة والسندان بعد اشتعال الأزمة الأوكرانية بسبب ملف الغاز، من الصعب عليها الاستمرار في سياسة إرضاء الجميع، وأن الكفة ستميل لإحدى الجهتين.

الرئيس تبون شكر الجيش الروسي على جهوده وتضحياته في تخليص الجزائر من الألغام التي زرعتها فرنسا الاستعمارية خلال حرب التحرير (1954 – 1962)، وأعرب عن نيته في الاستفادة من التكنولوجيا الروسية للتخلص من آثار التجارب النووية التي أجرتها فرنسا بالجزائر ولا تزال آثارها قائمة إلى الآن، وهي رسالة واضحة للفرنسيين تعبر عن خيبة أمل في تقارب زائف، وعن قدرة على إيجاد البديل.

◙ الأكيد أن المصالح والاهتمامات تتشابه لكنها لا تتطابق، فما يجمع الجزائر بفرنسا ليس هو نفسه ما يجمعها مع إيطاليا، والأمر ينسحب على الآخرين

لكن هل ذلك يلغي المصالح المشتركة بين الجزائر وباريس؟ وهل يمسح أواصر اجتماعية وثقافية تراكمت على مدار عقود من الزمن؟ وإذا الكفة رجحت لصالح الروس، فإن الكفة الأخرى لن تختفي تماما مهما كان وزنها خفيفا، فتأجيل زيارة وظهور خلافات مفاجئة لا يعنيان أن حتمية العلاقات بين البلدين قد انتفت بعد دخول الروس على الخط والوصول معهم إلى اتفاق شراكة معمقة.

الكل ينتظر ردود فعل الأوروبيين والأميركان على التناغم الذي ظهر بين بوتين وتبون في موسكو، لتطرح الاستفهامات الجادة حول موقف الغرب من هذا التقارب، وتداعياته على مستقبل العلاقات الجزائرية – الغربية، الأمر الذي يضع المشهد الذي أخرجت به الزيارة، في خانة المغامرة، فلا روسيا قادرة على حماية الجزائر وحماية نفسها، ولا الجزائر قادرة على الصمود أمام أي غضب غربي.

وما يعتبر بديلا أو استقواء لا يمكن له الإفراط في الرعاية والتدليل، لأن البرتغال وإيطاليا لا يمكن لهما الخروج عن المنظومة الأوروبية، حفاظا على علاقتيهما ومصالحهما مع الجزائر، عندما يتعلق الأمر بتضرر أحد الأعضاء من التكتل، وحتى موسكو حيز بصرها يتعدى الحليف الجزائر إلى حدود أبعد في المنطقة وفي القارة الأفريقية.

بوتين يكون بذلك قد تعمد إحراج نظيره الجزائري تبون، بكشفه أن البلدين أجريا تمرينا عسكريا مشتركا في شهر نوفمبر الماضي، وهو ما كانت الجزائر تخفيه عن الغرب ونفت وزارة الدفاع تنفيذه، وهي علامة فارقة على نية الرجل في قطع الروابط بين الجزائر وشركائها الغربيين بإظهارها في خانة الشريك غير الموثوق.

8