دافيد فاغنر ينطلق من حياته الخاصة ليشيد عوالم سردية خيالية

يكتب الروائيون استنادا إلى أحداث من الواقع أو من ذواتهم وحيواتهم الخاصة، ينطلقون منها لبناء عوالمهم السردية بشخصياتها وأحداثها وأمكنتها وحتى تفاصيلها، وهذا ما انتهجه الروائي الألماني دافيد فاغنر الذي استند إلى حياته الخاصة في كتابة رواياته الخيالية.
في الثانية عشرة من عمره، علم الروائي الألماني دافيد فاغنر أن كبده لا يعمل بشكل جيد؛ في الخامسة عشرة، كان أحد تخيلاته المفضلة أن يتخيل جنازته؛ قرب الأربعين أصيب بالتهاب الكبد المناعي الذاتي، الأمر الذي أدى إلى عملية زرع كبد له.
هذه الرواية “حياة” التي ترجمها عن الألمانية سمير جريس وإن كانت تروي قصة شبيهة بقصة مرض فاغنر إلا أنها ليست سيرته الذاتية، إنها قصة تتكئ على خبرته مع ما عاشه في مرضه، ليضعنا في مواجهة تأملات الحياة والموت، والأسئلة والإجابات المحتملة حول الوجود والعمر ما مضى منه وما بقي.
عبثية الحياة
تدور أحداث الرواية، التي صدرت ترجمتها عن دار “شركة المطبوعات اللبنانية”، حول شاب يعيش بكبد مريضة، في انتظار أن تجرى له عملية زرع كبد. وأخيرا يأتيه الاتصال الذي كان ينتظره ويخشاه، ويسمع من يقول له: السيد “ف”، لقد عثرنا على عضو مناسب لك. يتناول الشاب حقيبته التي جهزها منذ فترة طويلة، وينتظر سيارة الإسعاف التي تقله إلى المستشفى. تعقب ذلك أيام وليالي طويلة يقضيها على سريره في المستشفى، إلى جانب مرضى يتبدلون. يصغي الشاب إلى قصص المرضى المختلفة، فكل مريض لديه حكاية.
وهكذا يصغي الشاب إلى حكاية تاجر المشروبات الذي يغادر المستشفى بين حين وآخر ليتقابل مع عشيقته سرا، أو حكاية الجزار اللبناني الذي فقد اثنين من إخوته في الحرب الأهلية اللبنانية. حكايات كثيرة يستمع إليها، ويدرك من خلالها أن له حياة خاصة، وأنه يريد أن يواصل هذه الحياة من أجل أحبائه، من أجل ابنته الصغيرة.
هكذا تشتبك في أحداث الرواية قصة الراوي/ البطل مع قصص الرفاق الآخرين في المستشفى “كل مريض يحضر حكاية معه. فلأصغي إذا؛ وماذا بإمكاني أن أفعل غير ذلك؟”، وتتقاطع مع أحداث الواقع خارج المستشفى وما تحمله قصاصات الصحف من مآسي معظمها عبثي.
يرى فاغنر أن الحياة عبثية ويعتقد أنه ينبغي التفكير أو تذكير النفس من وقت لآخر بأن العبث يساعد على الإبحار في الحياة. القصة المضحكة مع القصاصات الواردة في الرواية، والتي ليست قصاصات كاذبة على الرغم من تعديلها إلى حد ما، أنها قصص قصيرة لا تروى إلا بالموت. الموت وحده هو الذي يجعل هذه الحياة ممتعة ويخرج منها قصة، والراوي هنا يجمع أو يتعثر في تلك القصاصات، في تلك المرحلة من مرضه حيث يتوقع بطريقة ما موت شخص آخر.
ويلفت إلى أنه بطريقة ما يمنحك المرض شيئا لتقوله وشيئا للحديث عنه، ويمنحك سؤالا وشكوكا كبيرة، في الواقع إنه نوع من الهدايا التي يمكن للمرء أن يتحدث عنها ويكتب عنها”.
ويقول المترجم سمير جريس إن “حياة” رواية تدفع قارئها في كل سطر إلى التأمل في الحياة وجدواها، وفي الموت وعبثيته. يتقاطع فيها الكاتب مع كافكا تارة، بقدرته على التحول والتحويل، ويضاهي ماركيز طورا، بقدرته على الخوض بتفاصيل نمر بها ولا نوليها أدنى اهتمام، لكنها، على بساطتها، تشكل في أحيان كثيرة لب “الحياة”..
ابن وأبوه
يقدم دافيد فاغنر في روايته “العملاق النساء” تصويرا وديا عميقا بشكل لافت وجذاب لعلاقة ابن بوالده الذي يعاني من كثرة النسيان أو بمعنى أدق الزهايمر، هذا المرض الذي يأخذه الإنسان بعيدا، حتى يكاد يختفي تماما على الرغم من التقارب الجسدي معه، إنه النسيان الذي يأكل كل شيء، أسماء الأخوات والأبناء، الزوجة.
الرواية، التي ترجمها سمير جريس أيضا والصادرة عن شركة المطبوعات للتوزيع والنشر، تتناول جانبا من حياة الروائي، لكنها لا تحمل المعنى الحرفي للسيرة، إنها قصة الأب والابن، زيارات الابن للأب أولا في المنزل الزجاجي في أندرناخ، وبعد ذلك في الفيلا الكبيرة لمرضى الزهايمر على نهر الراين.
ويسرد اللقاءات التي يروي فيها ما جرى بينهما من حوارات في الوقت الفعلي، وكيف يتجلى فيها التكرار أكثر فأكثر، وفيما المسافة مع الحاضر تزداد بعدا وتكبر، تتواصل أسئلة الأب الذي لا يزال يبدو رشيقا من الخارج، وتستمر إجابات الابن بنفس الألفة. إن ذاكرة الأب تبدو كجزيرة في بحر النسيان تنفصل شيئا فشيئا وتصبح أصغر فأصغر. فقط الخطوط البعيدة للماضي، وصور الطفولة وتاريخ الأسرة أثناء وبعد الحرب العالمية الثانية، هي فورية، كما لو كانت تقتحم الصمت المطلق للنسيان مثل غيوم الطقس.
تتشابه اللقاءات بين الأب والابن على مدى حوالي أربع سنوات مع محادثاتهما وركوب السيارات وحضور حفلات عيد الميلاد والوجبات المشتركة والزيارات الطقسية إلى أماكن إحياء الذكرى في راينلاند. وعندما تتألق هذه المحادثات بينهما غالبا ما تكون مليئة بالعمق والحكمة والمعرفة، حتى ليصبح من الواضح أن الزهايمر لا يجب أن يكون مجرد هاوية سوداء مظلمة.
إنها ليست قصص العائلة عن زوجة الأب الثانية وعلاقتها مع أبناء الزوجة الأولى الراحلة، ولا حلقات من حياة العلاقة المضطربة بين الأب والابن، حيث كانت هناك سنوات طويلة، لم يكن فيها الابن على علاقة كبيرة بأبيه، ولا حتى الكوميديا التي يخلقها التكرار ومواقف النسيان، ولكن الطريقة التي يكتب بها دافيد فاغنر عن زيارات الابن لأبيه، حيث يخاطب الأب بـ”صديق” مع ضبط النفس، والحب، والحذر، والاحترام، ورحابة الصدر خاصة عندما يكون الأب في ذكرى العملاق الذي يحمله خلال الحياة على كتفيه.
هذا فضلا عن رواية وطن، حيث تعمق الراوي “دافيد” تقريبا في كل أماكن طفولته وشبابه، مسقط رأسه أندرناخ خلف كوبلنز مباشرة، المدينة الجامعية في بون، التي كانت ذات يوم عاصمة الجمهورية الاتحادية القديمة. “أنا أقوده من خلال ماضيه. ومن خلال بلدي”. لقد اتخذ الروائي من ذريعة إثارة ذكريات الأب وسيلة للتغلغل فيما أهمل وطواه النسيان من معالم بلده..
في اللقاء الأخير، عشية عيد الميلاد، يحتفل الابن بالأب في المطعم الصيني على متن سفينة راسية بنهر الراين، يندهش المرء مرة أخرى من مدى ذكاء دافيد فاغنر في تأليف ما يبدو عرضيا. مازحا أن “العملاق النساء” لم يعد يعرف النهر الذي ترسي عليه السفينة، يتخيل أنه النيل. “ربما لم يتبق من الإنسانية سوى أهرامات الجيزة الثلاثة. ربما كانت البشرية في ذروتها منذ وقت طويل. ونحن لا نشهد سوى التضاؤل الأخير”..
يبقى أن نشير إلى أن ما هو مؤثر للغاية هو الحنان الذي يخلق به دافيد فاغنر شخصية الأب هذه. كل جملة يضعها في فم هذا الرجل تنفجر بالتباهي والمرح والحكمة، فن الحوار العظيم، كتاب دقيق عن رواية القصص مقابل النسيان..